مراد علو سليمان
(1)
أنت، نعم! أنت أيها الفرار.. عندما دخلت سوق شنكال التحتاني من أعلى وسطه، بعد انتصاف النهار، وقبل أن ترميك عيون أصحاب المحلات والدكاكين بسهامهم ويطالبوك ما لا قدرة لك على الوفاء به، قلبت بطانة جيوبك الفارغة، وسحبت السوق من شرقه الى غربه بزيج سومري معتبر أصيل. كنت مضمخا بخيبات الوطن المتعاقبة، وثمة أغنية لخدر فقير نسيت اسمها الترف، ترفرف داخل صدرك؛ كفراشة تتطلع للخروج من شرنقتها.
في القرن التالي، لم تتذكر شيئا، لا تعرف من الذي ضربك أولا، ولا الذي شتمك. كل ما تتذكره ابتسامات عريضة اقتربت منك لتقبّل ضميرك الحيّ على ما بذلته من جهد في سحب ذلك الزيج العريض الذي لامس كبريائهم. فلقد تحديتهم خير تحدي في العلن.
لم تصدق بطولتك النادرة في تلك الظهيرة؛ لأنك أنت نفسك لا تتذكر منها الا كيف أقبلت عليك دورية انضباطية من ذوي البيريات الحمر، فأطلقت ساقيك للريح وهربت من أولئك الزنابير وهم يلاحقونك.
كانوا خلفك طوال ثمان سنوات من الحرب، وأخيرا وصلت سوق شنكال الفوقاني ومن محلة الأرمن المهجورة، أخذتك ساقيك وانحدرت صوب السوق التحتاني وأنت تغني: (كريفي..).
وما أن توجهت سهام العيون نحوك؛ حتى فتحت جيوبك الخالية، و…
(2)
أنا منذور لانكسارات لا معنى لها في قواميس المتسولين، والسكارى، والصعاليك، والمجانين، والأطفال. منذور منذ طفولتي للخسائر المتكررة. فلقد كذبوا عليّ منذ نزوح فيصل الأول من صحراء نجد الى بغداد، وتأسيس دولة العراق. وكلما أصابت الدولة بخيبة أو نكسة؛ تقدمني قربانا، فأنا مليء بخيبات الوطن، ومنذور لانقاذ ما يمكن إنقاذه جراء النكسات المتتالية.
هكذا! شفيت من حبّ الوطن..
هكذا! شفيت من الغربة..
هكذا! كنت أرفع العلم العراقي أيام السبوت في ساحة مدرسة سنجار الثانية للبنين..
وهكذا! في معتقدي، من يعاني من خيبة ما، ويحسها في صدره وهي تكبر! يجب أن يتغنى بموّال: (لاوكو).
(3)
علقوا الفقير من لحينه، والخوركي من شاربه، وعلقوا الجوانبي من ضفائره، وخنقوا الولاطي بزيقه. أطلقوا الرصاص على أشجار التين، وأحرقوا أشجار الزيتون.
وبعد أن هدأ الفرمان، وتبدد الدخان نزلت غزالة من الجبل تلملم عظام الضحايا؛ لتجعل منها تميمة تعلقها على صدرها حين تهاجر الى ألمانيا.
نحن الضحايا المساكين لا يهمنا كيف تم اغتيالنا، وتكومت جثثنا على بعضها في المقابر الجماعية الشنكالية. مشكلتنا أنه لم يعد بوسع أحدنا أن يجد صوته ليغني: (غزال.. غزال.. هاااى… هاااى…).