سیما تیڤی

ميدان المقابر…مركز الوفاء المتوارث ركيزته المرأة

8/آذار .يوم المرأة العالمي
كنتُ هناك أستقصي ما يدور، لا أبرح المكان، أقتعد سيارتي بالانتظار، مركوناً على طرف الطريق المؤدي الى مزار (الشيخ حسن) وسط ذهاب وإياب عشرات الثكلى والمنكوبات يتكللن بالسواد غالباً، ولا وجود لأطفال أو صبية مع النسوة اللواتي يملأن المقابر ويفترشن ظل العزاء في يومٍ يسبق فريضة الصيام الأيزيدية.
هي عادة وفاء يتمسك بها ذوي الأموات من النساء فقط في بداية الأعياد.. يقُمنَ بزيارة المقابر دون انقطاع، وهو فرض دينيّ يناط بالمرأة في هذا الجانب لما لها من مكانة تميزها عن الرجل.
ما أهيبهُ من مكان.. ميدان المقابر والقباب المخروطية تشمخُ في العلو الواسع، بجوار جبل ال گور – جبل بحزاني وبعشيقة، تتنصّب فوق تلال استوت عليها القبور، ورصعتها بشواهدها المتناسقة، حيث مزارات (الشيخ شمس – سجادين – الشيخ حسن – قباب الثلاثة – بير بوب) تتوزع قبابهم وسط بلدتي الزيتون بعشيقة وبحزاني، يحتضنوا قبور الأموات جميعاً.. لكل سلالة أو عشيرة وليّ وشيخ يتبعون جواره.
ركنت سيارتي بطرف الطريق فوق الرابية المطلة على المقابر، أثناء ذلك اجتمعن أعداد من النساء كالنمل حول القبور بدقائق قليلة، قبل وبعد مجيئي، يرتدي أغلبهن لباس الحزن، ترتديه النساء بإرادتها دون الرجال، ربما لسنين إذا كان الفقيد شاباً. وكل مجموعة يحِطن قبراً حديثاً تصاحبهن (الدف والناي) كأداتين دينيتين، وأحياناً (الطبل والزرنة) أداتيْ فرح في حال كان شاباً أو عريساْ وافته المنية منذ أقل من أربعين يوماً. يعزف على آلتي الدف والشباب – الناي إثناء من رجال الدين الملتحين الذين قدموا لتأدية مراسيم استذكار الأموات كفرض سنويّ قبل بداية أيام الصيام الثلاثة، يليها العيد الأكبر لدى الأيزيديين، وهو عيد أيزي.
يقام هذا الفرض الديني والاجتماعي في كل مناسبة دينية، وعلى عويل النساء النادبات صدورهن ووجوههن تكاد الأصوات تشتبك لكثرة الأموات، لم يمض على وفاتهم مدة طويلة. يُعتمد البكاء بأثرٍ أشد وقعاً كلما كان الشخص لم يمضي على موته إلا أيام أو بضعة شهور. الألحان الخاصة تعزف قبل كل عيد تمجيداً وإجلالاً وتخليداً لروح الفقيد المتوفي.
كدتُ في ذلك الخضم أن أختنق محاولاً تفادي عدوة الدمع المستشري هناك عندما أوشك أن ينبجس من عينيّ لثقل الحزن الذي كبس على صدري وتفاقم في أرجاء الميدان الواسع.
يتكرر سماع المعزوفة الشجيّة الخاصة بالراحلين عن حياتنا الصاخبة من أمكنة متفرقة في مقابر الميدان بهيبة وخشوع، والعويل يشق سطح السماء، يصدح بين الحين والآخر. اعتدنا مشاهد الحزن منذ الصغر حين كانت بداية طفولتي هناك في منزلٍ بقرب (سبعة الميدان) هو اسم للقباب السبعة الشامخة والمجتمعة، يحتضنهم جبل ال( (گور) من الشمال، وكأنه يجمع تحت ذراعيه الطويلتين الممتدّتين بلدتي بعشيقة وبحزاني.
ما لا أحبذه أن يغمس خبز الأعياد بالدمع أولاً في كل مناسبة سعيدة وجميلة. حريٌّ بنا إبعاد طقوس الوفاء، ولو لأيام، عن الحاجة للسعادة التي تأتي في الأعياد من كل عام ! ذلك سعاً لجعل الحياة الإجتماعية في بيئتنا الأيزيدية المتماسكة أكثر ليونة وتماشٍ مع الحداثة والعقلانية التي تتيح السلاسة في تغيير وتجميل المتوارث من الأعراف المختلفة.
أتقصد هذا البوح إنما لظواهر تاريخية يجدر التنويه إليها وتقييم ما تحمله من أهمية، إذ بموجبها تحفظ الأعراف الاجتماعية والطقوس العريقة لملّة الشمس.
والمظلة التي ترعى ذلك هي المرأة صدقاً ووفاء للذين واراهم الثرى، فقد أَوجدت الأعراف الأقرب اليها “كربة منزل ومجتمع” تصون سنتها الطبيعية في الولادة والتنشئة وصون مقدرات لا يكْنه الرجل سرّها في الأغلب لو لا أن المرأة مقيمة على إدارة أهم فروض الحياة الاجتماعية. فهي الركيزة الأكثر وفاءً لإقامة طقوس الوفاء من كل عام لكي لا يقتحم النسيان الذاكرة الجمعية.
أتساءل ما إذا كان الحزن رغبة جمعية يقتفي أثرها المرء أم عرفٌ يصاحب الوفاء للراحلين على أمل اللحاق بهم أو استحضارهم ذِكراً حسناً في أيام الأعياد والمناسبات الدينية خاصة.!؟
آنذاك نال مني النصيب من الحزن فور سماع معزوفة الميت، تصبّها كزيت فوق النار أنفاس رجل الدين ما جعلني أشعر أننا نحن الرجال لا قابل لنا لتحمّل ذلك الحزن الخرافي الذي لا يبرح يأتي رفقة السعادة كسنّة دينية، أوكل للمرأة، لا بإمكانها كسر حدّتها الأزلية وفرضها المقدس، كون المرأة ليست منشأناً للدين الأبوي، لذا جَعلتْ الميتَ ظلاً نصاحبه بعد رحيله.
مكّنني الصبر من تحاشي إظهار حقيقتي السرية الآيلة للتساقط والذوبان في حالات الصدق النادرة مع الذات..
تفاديتُ الظهور مهزوزاً متداعٍ أمام المارة من النساء. فعدتُ ادراجي كئيباً مصدوماً، لا يمكنني بلع ريقي، بينما شاهدت إحداهن تمضغ (حلوى الميت) توضع سلال الحلوى والسكاكر فوق القبور كصدقة على أمل أن تصل أرواح الموتى في الآخرة، وهي خارجة الى جانبي من الميدان. كنت أمضغ حزني لوحدي.، وهن كنّا يمضغن العادة المتوارثة بكل أريحية واعتياد!.

سفيان عرب شنكالي
كاتب واديب ايزيدي /بعشيقة وبحزاني

><