أمير بركات/شاعر
قراءتي في مجموعة ( أسرارُ حُلمٍ أسمرَ ) التي صدرت حديثاً للصديق الشاعر خضر الياس آلدخي
من عتبة العنوان ( أسرارُ حُلمٍ أسمرَ ) يتبيّن لنا أنّ الشّاعرَ ( خضر الياس آلدخي ) يوظفُ أدواته الشعرية بما تحمله من روحٍ إنسانية ليصف للقارئ أحلاماً حزِنت وغابت ولم تتنفّس كما الأسرار، وهو شاعرٌ يتميزُ بلغته الشعرية السلسة وصوره المكثفة القريبة إلى قلب القارئ وأسلوبه الجزل في محاكاة الواقع المُرير الذي عاشته مدينته ( شنكال ) وما تعرضت له من إبادات جماعية وظلم وتهميش وحرمانٍ من أبسط الحقوق ومقوماتِ حياةٍ كريمة.
الشاعر خضر آلدخي من أوائل الشعراء الشنكاليين الذين كتبوا قصيدة النثر التي تتميز بخلوها من الأوزان والقوافي، لكنها بالدرجة الأساس تعتمد على الصور الشعرية المكثفة، ووحدة موضوع القصيدة وعضويتها، وميلها إلى الإيجاز والاختصار، وقد أجاد شاعرنا في هذا الجنس الأدبي وأبدعَ ونسج منه مجموعته الشعرية.
يفتتحُ الشاعرُ مجموعته بقصيدة عنوانها ( وميضٌ عابر )
يقول فيها:
خطونا على ظِلِّ الحُلمِ
وتركنا الليلَ يكتبُنا،
حين تشرقُ
تفكّكُنا الشّمسُ
كأنّها تعرفُ الأسرارَ…
وفي هذا النص نرى الشاعر يمشي بخطى ثابتة مستخدما ضمير الجماعة للدلالة على الهوية القومية والدينية متتبعاً ظِلَّ حُلمٍ بعيدِ المنال ؛ولذلك تركه لليلٍ عابرٍ أن ( يكتبه ) لكنّ الأحلام المتروكة أمرُها للّيالي تُكتب على الماء أو الرّمال لأنّ الشّمسَ لابدّ لها أن تشرق وتكشف أسرارَها وتفتح عليها الأبواب والنوافذ والستائر لتطير مع الهواء الطّلق وتختفي في السماء الواسعة التي لم تكرمنا بنجمة بل ( تتآمر النجوم علينا ) كما ذكر في النّص.
ولا يبخل علينا شاعرنا أبداً بالنصوص الوجدانية الجميلة والمؤثرة في مجموعته هذي وقد كتب قصائده في مواضيع متعددة فكتب عن أحلامه وأحلام وأوجاع الأيزيديين وعن ابنته ( راما المُعاقة ) التي خصّها بقيصدة موجعة… وختمها برثاء الشاعر العراقي الراحل مظفر النوّاب بقصيدة ( مظفّرٌ قد مات) إلا أننا نقفُ عند ومضاتٍ جميلةٍ منها حين يقول:
ربيعي
موكبٌ حُسينيٌّ
بل صرخةُ سُكينةَ
في حضرةِ شتاءٍ ظالم.
هنا يستحضر الشاعر القصة التي خلدت في وجدان الإنسانية قصة الحقّ، قصّة طلب العدل، والثورة على الظلم، قصة الإمام الحسين ( ع ) مشبهاً ربيعَه المأساوي بموكبٍ حُسينيٍّ وهو تشبيه بليغ لما بينهما من سوادٍ وبُكاءٍ ومأساة وحزن دفين…
بل يعدد التشبيه ويشبه ربيعه بصرخة سُكينةَ ابنةَ الإمام الحُسين ( عليه السلام ) وكل ذلك ( في حضرةٍ شتاءٍ ظالمٍ )
للدلالة على البرد والقسوة والحزن في ظلمةِ الليالي الطوال..
وقد استخدمَ مفردة ( الليل ) في مواضع ونصوص كثيرة في مجموعته بدلالاتها المختلفة..
ومن أكثر قصائد هذه المجموعة وجعاً وألما قصيدة ( راما، يا ابنتي المُعاقة ) وراما هي طفلته التي كانت تعاني شللاً رباعيّاً منذ ولادتها حتى وفاتها عن عمرٍ لم يتجاوزِ التِّسع سنوات.
يقولُ فيها:
راما، يا ابنتي المُعاقة
كأنّكِ الزّمنُ الّذي نعيشُهُ
كأنّكِ الإنسانيّةُ
الّتي لم تعُد إلّا شعاراتٍ جوفاءَ
أما آنَ لكِ أن تركضي
إلى أحضانيَ الدّافئة..
كُلُّ كلمةٍ في هذه القصيدةِ الّتي خُطّت بيدٍ من وجع
تدعو القارئَ للبكاء؛ فقد حملت كُلّ معاني الأسى التي نبعت من قلبِ أبٍ مفجوع ولكثرة الألم الذي عاناه وعانته ابنتُه المشلولة شبّهها بالزمن المعطوب المشلول في كُلِّ مفاصلهِ وهو هذا الزمن الذي نعيشه – كما ذكر الشاعر – وهو واقع الفرد الشنكالي المهمّش..
يختتم الشاعرُ مجموعته بقصيدة عنوانها ( مظفّرٌ قد مات ) يرثي فيها الشاعر العراقي الراحل ( مظفّر النوّاب ) يقول فيها:
خبرٌ سعيدٌ
يطربُ أسماعَ الطّغاة
مظفّرٌ قد مات
عريسُ بغدادَ
تزفُّهُ نوارسُ دجلةَ
مظفّرٌ قد مات
غفوةٌ أبديّةٌ
لا منفى بعدَ اليوم
مظفّرٌ قد مات
ولأنّه الإناءُ
الّذي نضحَ شعراً
لم يوارَ الثّرى، بل وجدانَنا…
مظفّرٌ قد عاش.
مظفّر النوّاب الشاعر الّذي رثته كُلُّ الضمائر الحيّة وكُلُّ الأحرار، شاعر التمرّد شاعرُ ( منافي العُمر ) شاعر ( الريل وحمد ) شاعر ( زرازير البراري ) وقد رثاه شاعرُنا بأصدق الصور الوجدانية التراجيدية وهو يؤكّد أنّ خبر وفاته لم يسعد أحدا إلّا الطغاة
وأنّه لم يمت بل كان عريساً زفّته نوارسُ دجلة وأنّه استراح أبداً من المنافي التي أتعبته فلا منفى بعد اليوم، ويختمها بصورة شعرية بديعة بأنه الإناء الذي نضح شعراً؛ فلم يوارَ الثّرى، بل وجدانَنا وسيظل حيّا خالداً في وجدان كُلِّ من يحملُ في أحشائهِ شيئاً من الإنسانية..
ولأنّه الإناءُ
الذي نضح شعراً
لم يوارَ الثّرى، بل وجداننا
مظفّرٌ قد عاش.