سیما تیڤی

 لماذا يتعثر المسار الديمقراطي في العالم العربي؟

جمال نعيم

ملخص

اتجاهان غالبان يسودان بين المفكرين والمثقفين العرب في تحديد أسباب تعثر المسار الديمقراطي، هما البنية الذهنية الثقافية الدينية والسياقات التاريخية السياسية والجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

منذ قرنين ونيف، أي منذ  حملة بونابرت على مصر عام 1798، بدأت النهضة العربية مع مفكرين نهضويين من أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وشبلي الشميل وفرح أنطون وغيرهم، لكن هذه النهضة بقيت مجرد أحلام وطموحات لم تر النور، إذ لم نجد لها تجسيدات حية وواعدة في أرض الواقع. وعليه، بقيت النهضة العربية المزعومة هذه مجرد حلم ومجرد طموح راود ثلة من المثقفين الحالمين، ولم تنغرس في الأرضية الثقافية والمجتمعية للشعوب العربية، وإن كانت النهضة، وما زالت، عملية ضرورية للنهوض بالمجتمعات العربية. اللافت أن النخب المثقفة التي دعمت السلطان في حكمه أو كانت قريبة منه أو روجت لنوع موقت من الاستبداد الضروري ريثما ينتشر الوعي في ربوع العالم العربي وبين صفوف الشعوب العربية لم تضع، لإظهار صدقيتها وتسويغ دعمها السلطان، برنامجاً زمنياً على مراحل لنقل المجتمعات العربية من واقع التخلف والانحطاط الشديدين إلى واقع الحداثة والتنوير، مع أنها تدعي أن الحداثة كانت هدفها الأساس. وما كان عابراً وموقتاً في نظر بعضهم، إنما صار الدائم والأصل بحكم الأمر الواقع والامتداد الزمني. هكذا لم نعد نسمع بضرورة المشاركة الشعبية في الحكم، وإن بقي الشعب، بحسب ما تنص عليه غالبية الدساتير العربية، مصدر السلطات.

ما الديمقراطية؟

الديمقراطية، تعريفاً، حكم الشعب بالشعب وللشعب. هذا يعني أولاً أن لا سيادة لغير الشعب الذي هو مصدر السلطات جميعاً، ويعني ثانياً أن الشعب يحكم، ولو عبر ممثلين ينتخبهم لهذه الغاية، إذ يتعذر تطبيق الديمقراطية المباشرة التي كانت سائدة عند الإغريق، ويعني ثالثاً أن مصلحة الشعب هي الغاية العليا من أي نشاط ديمقراطي سياسي. وهذا ما نجده في غالبية دساتير الدول العربية، وإن كنا لا نرى، عملياً، نجاحاً ولا تقدماً للمسيرة الديمقراطية في العالم العربي. والأهم في الديمقراطية ليس آلية الانتخاب، بل القيم والمبادئ التي تسندها وتؤسسها. من هذه القيم نذكر على سبيل المثال الحرية والمساواة والعدالة والحقيقة والأخوة والكرامة، إضافة إلى مبادئ شرعة حقوق الإنسان. ومن المبادئ نذكر مبدأ فصل السلطات، ومبدأ تداول السلطة، ومبدأ تكافؤ الفرص وإلغاء التمييز العنصري.

ما الذي يمنع نجاح الديمقراطية في العالم العربي؟ 

تعد حركة التنوير، أو الحركة الفكرية العقلانية، تحدياً مهماً في العالم العربي، إذ ما فتئت تفشل رغم كل جهود النهضويين العرب. يشير بعضهم إلى البنية الذهنية الثقافية الدينية المزمنة ويعدها عاملاً أساسياً يحول دون التنوير في العالم العربي. وهناك من يؤكد أولوية السياقات التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعوق مشروع التنوير في المنطقة، ذلك بأن العالم العربي مر بتجارب تاريخية مؤلمة، بدءاً من الاستعمار وصولاً إلى الصراعات الداخلية والتحولات الاقتصادية. وتشمل هذه السياقات التحديات الاقتصادية مثل الفقر والبطالة، والتحديات السياسية مثل نقص الحكم الرشيد والطبقية المقنعة وغياب الشفافية، والتحديات الاجتماعية مثل ضعف الحريات الأساسية وتفشي الفساد.

لا شك في أن عدم نجاح الديمقراطية في العالم العربي يمثل تحديا للعقل بعامة، والعقل الفلسفي النقدي بخاصة. في هذا المجال نتساءل: لماذا لا يسلك المسار الديمقراطي مساره الطبيعي في بلدان العرب؟ هل لأن العرب لديهم ما هو أفضل من الديمقراطية؟ هل لأن العرب يطرحون حضارة أخرى غير الحضارة الأوروبية الغالبة حاليا؟ هل لأن العرب يطورون نماذج من تاريخهم الحضاري قابلة الحياة؟ ما البديل عن الديمقراطية الغربية على رغم ما يعتورها من عيوب وسيئات؟

صنف معن زيادة في تقديمه الجزء الثاني من الموسوعة الفلسفية العربية التيارات الفلسفية التي سادت منذ عصر النهضة بثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تبنت النموذج الحضاري الغربي بحسناته وسيئاته، إذ انطلقت من واقع تخلف العرب الشديد. والمجموعة الثانية رفضته تماماً وعادت إلى جذورها وأصالتها واعتقدت أن الحضارة العربية الإسلامية لديها ما تقوله في هذا العصر. أما المجموعة الثالثة فقد حاولت التوفيق بين الاتجاهين.

اتجاهان غالبان يسودان بين المفكرين والمثقفين العرب في تحديد هذه الأسباب. يعطي الاتجاه الأول الأولية للبنية الذهنية الثقافية الدينية التي تكونت منذ قرون وما زالت تعوق توطين الديمقراطية في العالم العربي. والاتجاه الثاني يركز على السياقات التاريخية السياسية والجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحول دون نجاح المسيرة الديمقراطية في العالم العربي. ومن ثم، فإن ما يعوق توطين الحداثة في أرض العرب يمكنه أن يعود إلى وجود بنية ذهنية ثقافية دينية تعوق ذلك، كما ذهب إلى ذلك الجابري في نقده العقل العربي، ومشير عون، لا سيما في مقالته الموسومة “الاستحالة الفلسفية للربيع العربي” التي نشرت في النهار في التاسع من كانون الثاني من عام 2015، ويمكنه كذلك أن يعود إلى سياقات تاريخية سياسية اقتصادية مجتمعية وجيوسياسية حالت دون نجاح المسار الديمقراطي، كما ذهب إلى ذلك غليون وغيره من المفكرين العرب.

من يقل بالبنية الذهنية العقلية المعيقة، يجزم باستحالة نجاح مشروع التنوير العربي قبل تفكيك البنية الذهنية المعيقة هذه، وقبل تفكيك العقل العربي هذا وتقويضه. فما يعانيه العرب وليد أزمة بنيوية عميقة الجذور في تاريخهم، وليس وليد أزمة طارئة في حياتهم. إنها أزمة في العقل العربي نفسه، في طرق تفكير العرب ونظرتهم في الحياة والإنسان والكون. وعليه، من العبث أن نعالج ما هو هامشي وثانوي ونترك من دون علاج ما هو أساس وجوهري، أي ما يعود إلى العقل العربي بما هو كذلك. ومن يقل بأن هناك سياقات تاريخية حالت دون نهوض العرب ودون نجاح نهضتهم العربية الأولى ومن ثم الثانية، فإنه يقول إنه علينا ألا نكتفي بالحفر عميقاً في طبقات الثقافة العربية للتعرف على طريقة تكون العقل العربي وطريقة تفكيره ووجهة نظره في معالجة المشكلات، بل علينا أولاً أن ننزل إلى الميدان لنبحث عن الأسباب الحقيقية الراهنة والقريبة التي أفشلت مشروع التنوير وحالت دون توطين الحداثة في المجتمعات العربية. هكذا لا نعفي الفاعلين الحقيقيين الذين تصدروا المشهد السياسي الاجتماعي العربي منذ ولادة الدولة الوطنية بعد زوال الاستعمار. هؤلاء، في نظر غليون وغيره، هم المسؤولون الحقيقيون، إذ حولوا ما يفترض فيه بأنه دولة وطنية جامعة إلى مافيا تعمل لحساب مصالحهم الخاصة، لا لحساب مصالح المجتمع. وهذا ما ذهب إليه برهان غليون في كتاباته منذ كتابه اغتيال العقل العربي. هذا لا يعني عدم الاعتراف بوجود بنية ذهنية معيقة، لكن علينا أن ننظر فيها بوصفها سبباً من الأسباب الكثيرة، وليست السبب الرئيس. في هذا السياق نسأل: لماذا تفشل المدرسة الحديثة في بناء عقل علمي فلسفي نقدي حديث عند التلميذ، مع أن جميع المواد التي يتعلمها التلميذ مواد حديثة على الطريقة الأوروبية باستثناء مادة الدين؟

إذاً، يخطئ من يظن أن هناك عقلاً جوهرانياً عربياً اكتمل بناؤه في القرون الهجرية الأوائل وبقي على حاله وهو سبب تخلفنا، إذ ليس هناك من عقل بني مرة واحدة إلى الأبد، بل هناك عقل يبنى باستمرار. هناك مسارات وسيرورات للعقلنة، وليس هناك عقل واحد بحصر المعنى.

بين المثال والأداء 

لا يتقبل بعض الناس خطيئة الغرب في تعامله المشين مع الشعوب الأخرى، وهو محق في ذلك. ذلك بأن الغرب الذي رفع قيم الحداثة: الحرية والعدالة والمساواة والأخوة والكرامة والحقيقة، وطبقها على أرضه لم يعامل بقية الشعوب، لا سيما شعوب المستعمرات التي صارت تعرف لاحقاً باسم شعوب العالم الثالث، بما تقتضيه هذه القيم والمبادئ. هكذا ما انفك المعترضون يرفضون الحداثة الغربية برمتها، بل ويدعون إلى تقويضها. وعليه، فإن من لا يميز بين الفتوحات الفكرية القيمية التي ابتكرها الغرب وأنجزها، وأدائه البائس المعيب في أحيان كثيرة مع الشعوب الأخرى، لا يحق له أن يميز بين الماركسية بما هي فكرة وأداء مناصريها الوحشي، أو بين الإسلام بوصفه مثالاً حضارياً وأداء المسلمين الذي يخالف هذا المثال.

زبدة القول إنه علينا دائماً أن نميز بين ما تنتجه عقول بعض الأفراد الاستثنائيين، وما يرتكبه بعض الساسة الذين يغلبون مصلحة بلادهم وشعوبهم على مصالح البلاد والشعوب الأخرى. لذلك لا ضير في الأخذ بقيم الحضارة الأوروبية حتى لو أساء الأوروبيون إليها، بل حتى لو اندثر الأوروبيون عن آخرهم لأنه لا بديل حتى الآن عن الحضارة الأوروبية ولأنها ما زالت الأفق الحضاري الذي لا يمكن تجاوزه.

وعليه، فإن التحديات التي تواجه عملية التنوير في العالم العربي تتمثل إما بالبنية الذهنية الدينية، وإما بالسياقات التاريخية السياسية والجيوسياسية والاجتماعية. ولا شك في أن حصر العوامل التي تعوق المسار الديمقراطي بعامل واحد ليس علمياً ولا موضوعياً. فغالباً ما تكون للظاهرة أسباب وعوامل كثيرة. إذاً، هناك عوامل عديدة تسهم في تعثر المسار الديمقراطي في العالم العربي. وقد أتينا على ذكر ما له علاقة ببنية العقل العربي التي تمنع كل مسعى ديمقراطي من أن يتفتح بصورة طبيعية ويسلك مسلكه الطبيعي، وعلى ما له علاقة بالاستقرار السياسي، إذ غالباً ما تشهد البلدان العربية انقلابات عنيفة، إضافة إلى غياب الشفافية والحكم العقلاني الرشيد. لا ننسى تدخل القوى الإقليمية والدولية في شؤون العرب. فالعالم العربي تحيط به دول إقليمية كبريات كتركيا وإيران، وزرعت في قلبه إسرائيل التي صارت كذلك قوة إقليمية كبرى على رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها، بسبب من الدعم اللامحدود الذي يأتيها تحديداً من أميركا والاتحاد الأوروبي. الدول الإقليمية الثلاث هذه فعلت فعلها في الدول العربية ومنعت بتدخلاتها نضج التجربة الديمقراطية التي لم تسلك مساراً تطورياً طبيعياً في المجتمعات العربية. ناهيك بصراع الدول العظيمات على المنطقة، وقد تجلى في الحرب الباردة أيام الاتحاد السوفياتي وفي الصراع على النفوذ حالياً بين أميركا وأوروبا من جهة، والصين وروسيا حتى الهند الصاعدة من جهة أخرى.

على هذا النحو، يتضح أن التحديات التي تواجه التنوير في العالم العربي تعود إلى مجموعة متنوعة من العوامل، وأنه من الضروري فهم هذه العوامل فهماً شاملاً متكاملاً من أجل معالجتها وتعزيز عملية التنوير والحداثة في العالم العربي. ذلك بأن الحداثة، حتى إشعار حضاري آخر، أفق العالم المعاصر الوحيد.

 

 

><