حليمة شنكالي
في صباح بارد من صباحات شهر شباط من عام 2024، تتمشى ”آشنا“ في سوق القيصرية في أربيل، وهي ترتدي معطفاً طويلاً أخضراً. وفي حقيبتها النسائية السوداء 15000$ ثمن بيع حزامها الذهب، الذي باعته قبل دقائق بهدف توفير المال اللازم لعلاج زوجها القمارجي الذي فقد قدرته على المشي بعد إفلاسه بسبب لعب القمار منذ أكثر من ثلاث سنوات.
تتذكر آشنا قصة النبي زكريا الذي نادى ربه نداءً خفياً، فرزقه الله بيحي. هي مثل زكريا، كانت تتمنى أن يكون لها ولدٌ أو بنت، وعندما أصابها اليأس، حاولت أن تتبنى طفلًا تيتم بسبب هجوم داعش الإرهابي عام 2014 على مناطق مختلفة من العراق. لكن زوجها الأناني رفض ذلك.
فجأةً، تشعر بأن شخصًا يسير خلفها مباشرةً ويتبعها، فتتعمد أن تشق طريقها في الأماكن الأكثر ازدحاماً في السوق. لكنه يقترب منها أكثر، تسرع للخروج من السوق، وتصل إلى الشارع المقابل للقلعة. تحاول العبور إلى جهة القلعة، وإذا بالشخص يلمس خصلات شعرها القصير. تلتفت بسرعة فتتفاجأ برؤية ”شوان“، يبدو شوان جميلاً كما كان، والحقيقة هي وشوان متشابهان في الجمال، لكنه الآن يبدو كالملاك. لوح شوان بيده لها مودعاً وفي الحال اختفى.
وقفت آشنا مذهولة للحظات، ثم عبرت الشارع وجلست على المساحة الدائرية التي تحيط بالقلعة والتي يتخذها الباعة لعرض مبيعاتهم. تفكر كيف يمكن لها أن تعرف إذا كانت قد أصيبت بالجنون أم لا؟! يرن هاتفها ويصمت لعدة مرات، تفتح حقيبتها فترى رزمة الدولارات، تقبض عليها بقوة براحة يدها. تريد أن تفنيها. تردد بحقد صامت: “أنت ورق الدولار السبب في تعاستي، أنت السبب في عدم زواجي من زميلي في العمل وصديق روحي شوان، أنت السبب في عزوبية شوان، أنت السبب في صراخ أمي المستمر في وجهي: ”أنتِ يتيمة وشوان يتيم وفگر على فگر ما يصير!“
لوهلةٍ شعرت أن الدنيا أظلمت تماماً أمام عينيها، وعندما عاد النور، كان الحزن قد تغلغل داخل روحها. عندها أدركت أن شوان رحل ومات! تمطر حبات البرد (الحالوب) عليها بغزارة، تضربها مثل الأحجار بقسوة، تستسلم لضرباتها. ماذا تفعل؟ أين تذهب؟ لم يعد هناك مأوى روحي دافئ تلجأ إليه. كان لديها شوان، لكنه مات! هي بحاجة إلى مكان للنحيب، أفضل مكان للنحيب هو المستشفى، لا أحد يسألك هناك لماذا تبكي، لأن الموت في المستشفيات كثير!
بسرعة تستقل تاكسي وتعود إلى زوجها المشلول الراقد في المستشفى الأهلي، فتسمع أن زوجها قد مات أيضاً! تندهش لهذا القدر المكتوب، مات زوجها دون أن يودعها رغم أنها عاشت معه تحت سقف واحد أكثر من عشرين سنة، وجاءت روح شوان لوداعها في سوق القيصرية رغم أنهما لم يلتقيا منذ أكثر من عشرين سنة!
بموت زوجها، زال المانع من تحقيق أمنيتها بتبني طفل من الأطفال اليتامى أو على الأقل بتكفل مصاريفه المالية. وعندما يزول المانع في تحقيق أمنية الإنسان، يجب عليه أن يسعى لتحقيق أمنيته بأسرع وقت. وهذا ما فعلته آشنا.
يستلم شخص متطوع للأعمال الخيرية من آشنا مبلغ 15000 دولار كدفعة أولى لمصاريف طفلة عمرها عشر سنوات، يتيمة الوالدين بسبب جرائم عصابات داعش الإرهابية ويقول:
–هذه الطفلة كان عمرها عدة أشهر عندما تكفل شخص بمصاريفها، وكان له نفس شرطك، ألا يعرف باسمه أحد إلا بعد موته. مع الأسف، توفي قبل أسبوع، رجل أعزب اسمه شوان. لروحه الرحمة والسلام.
تشهق آشنا من الدهشة، ترغب في طرح السؤال نفسه الذي طرحه زكريا: أنى يكون لي هذا؟! كيف يمكن لي أن أتكفل بالطفلة التي كان قد تكفل بها شوان؟! في الحال تقرر أن تتبنى الطفلة وتعيش معها، لتصبح هي وشوان يتيمين حرب، اللذين لم يتزوجا بعضهما البعض كأم وأب لطفلة يتيمة حرب، في وطن يزداد فيه عدد أيتام الحروب باسم الوطن والدين والقومية والمذهب.