استهدفت الإبادة الأخيرة ضد الإيزيديين في الثالث من اب 2014م، وجودهم العريق في العراق بشكل عام، وفي سنجار على وجه الخصوص، فراح ضحيتها الألاف ما بين شهداء ومختطفين ومختطفات، حيث تمت إبادتهم بالقتل والدفن في عشرات المقابر الجماعية، فيما هرب من بطشهم مئات الآلاف، وتركوا منازلهم وممتلكلتهم ليقوم التنظيم بنهبها، ويهدم البيوت وليقوم بتجريف المقابر وتفجير المراقد والمزارات الدينية لهم، لكن تلك ليست سوى قصة مستمرة في التاريخ الإيزيدي
تاريخ مرير من الإبادات الجماعية
تعرض الإيزيديون عبر تاريخهم المرير إلى أبشع الجرائم والإبادات التي شنت ضدهم للنيل منهم وللقضاء على هويتهم الدينية. الإيزيديون الذين يقطنون في العراق على الأغلب مع وجود ضئيل لهم في سوريا وتركيا والبعض من دول القوقاز، عانوا كثيراً من الحملات ضدهم سواء كانت حملات إبادة جماعية (فرمانات كما يسمونها الإيزيديون) او حملات منظمة لطمس هويتهم وحقيقتهم من خلال نشر الأفكار الخاطئة عنهم وتهميشهم وتضليل ماهية ديانتهم بوصفهم بالكفرة او عبدة الشيطان او فئة ضالة مرتدة.
وقد عانى الإيزيديون من أثار الإبادة الأخيرة وجرائمها الشنيعة من قتل وسبي وتعدي على شرف الإيزيديات الطاهرات والاتجار بهم في أسواق النخاسة، فاستمرت تلك المعاناة والمأساة لعقد من الزمن، ففي الذكرى العاشرة للإبادة الإيزيدية كان هنالك إجماع أممي وعراقي على حجم معاناة الإيزيديين، وتم إحياء الذكرى بشكل مميز هذه المرة، حيث تم طرح البعض من الاستراتيجيات والخطط من أجل أكرام الضحايا والنهوض بواقع الإيزيديين وأعادة الحياة الى مناطقهم.
صناع الكراهية يفتعلون أزمة جديدة
يبدو أن صانعي الفتن والمتربصين بالفكر المتطرف وصناع الكراهية ومروجيها كان لهم رأي أخر، حيث أن منابر تلك الأبواق قامت بالترويج لمقطع فيديو مسرب لكلمة أحد القيادات الإيزيدية ورموز مقاومتها في الذكرى العاشرة للإبادة الإيزيدية في سنجار، وتم تداولها بشكل كبير في منصات التواصل الأجتماعي. على الرغم من صدور بيان من قبل تلك الشخصية يوضح فيها بأنه لم يكن يقصد الإساءة لأي دين أو معتقد أو لأي من الأنبياء والصالحين، وأن ما يعنيه في كلامه هم تلك الجماعات المتطرفة التي تستغل الدين الأسلامي الحنيف وكتابه المقدس ورموزه لتبرير وشرعنة أعمالهم الأجرامية وهم ليسوا مسلمين ولا يمثلون الأسلام، الا أن تلك الجماعات أصرت على أن تلك الشخصية الإيزيدية قد اساءت الى شخص نبيهم.
لم تتوقف الأزمة عند هذا الحد، فعلى الرغم من ذلك البيان وكذلك الأعتذار الرسمي الذي قدمته المرجعية الإيزيدية العليا وذلك من خلال مؤتمر صحفي على إثر زيارة الأب الروحي للإيزيديين (البابا شيخ) والمرجعية الدينية الى اتحاد علماء المسلمين في أربيل ليبين البابا شيخ بأن تعاليم الدين الإيزيدي السمحاء لا تسمح للإيزيديين بالاعتداء على مقدسات أحد، وأن ما يصدر من فرد واحد لا ينبغي أن ينعكس على أفراد المجتمع بأكمله، حيث ذكر سماحته بأنهم يعتزون بالمسلمين وأن محبتهم تسكن قلوب الإيزيديين. ولكن من المؤسف أن كل تلك المواقف الإيزيدية التي حاولت أن تدرك الأزمة وتطفئ نار الفتنة لم تفيد، حيث وبحسب البعض من منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الأنسان والمراكز الاعلامية كمنظمة بتريكور لحقوق الأنسان وميترو سنتر فأن حجم خطابات الكراهية بحق الإيزيديين قد بلغ 3750 خطاب كراهية في مدة أقل من 24 ساعة وكانت في الأغلب من قبل البعض من رجال الدين في مدن أقليم كوردستان العراق.
إن هول الفاجعة وتأثير تلك الخطب المليئة بالحقد والكراهية لم تستهدف تلك الشخصية الإيزيدية المعنية فحسب، وانما استهدفت جميع أركان الديانة الإيزيدية وتجاوزت الخطوط الحمراء لتصف الإيزيديون بأنهم كفار وعبدة الشيطان وبأن ماحصل لهم من إبادات هي استحقاقهم وأنه يجب إبادتهم متى ما اتيحت الفرصة. أن هذا الخطاب المتشنج والفكر الخطير ولد هاجساً من الخوف عند الإيزيديين وتم ترجمته كتهديد مباشر لكيانهم مما أضطرت المئات من العوائل في مساء اليوم الثامن من اب وصباح يوم التاسع من اب الى النزوح مرة أخرى وترك مخيمات النازحين في دهوك والتوجه الى سنجار. فحسب بعض الأحصائيات الرسمية وكذلك وزارة الهجرة والمهجرين العراقية فأن قرابة 700 عائلة إيزيدية تركت بالفعل مخيمات النزوح في دهوك ورجعت الى سنجار خشية من خطر خطابات الكراهية المتزايد ضدهم.
بيانات توضيحية للرأي العام
في ظهيرة يوم التاسع من اب، تجمع الالاف من الإيزيديين في مزار شرف الدين في شمال جبل سنجار الذي يعتبر من اكبر المزارات الدينية للإيزيديين في العراق بعد معبد لالش المقدس وذلك لغرض أصدار بيان توضيحي الى الرأي العام العالمي والى الأخوة المسلمين الشرفاء. فقد أصدر المجتمعين بياناً بأسم المجتمع الإيزيدي يظهر فيه الموقف المسالم للإيزيديين وديانتهم من الأديان الأخرى ولاسيما الدين الإسلامي الحنيف والنبي الكريم وبأن الإيزيديين رغم تعرضهم الى الكثير من الإبادات الممنهجة من قبل الجماهات الأرهابية المتطرفة والتي حملت رايات بشعارات أسلامية وتسميات بأسم الأسلام الا أن الإيزيديين لم يقوموا يوماً بأتهام المسلمين بتلك الأفعال وأن مواقف الإيزيديين كانت ولا زالت دائماً مواقف خير وتسامح وسلام وبأن المجتمع الإيزيدي يميز دائما بين المسلمين الشرفاء وبين من يستغلون أسم الدين لأغراضهم الدنيئة.
من جهة ثانية صدر بيان من قبل رئاسة أقليم كوردستان جاء فيه بأن أقليم كوردستان هو موطن جميع المكونات الكوردستانية وبأنهم لن يسمحوا للأصوات النشاز بأن تبث روح الكراهية والحقد بين المكونات الكوردستانية المسالمة وبأن كوردستان ستبقى رمزاً للتعايش بين جميع مكوناته، ليضيف البيان بأن من يتطاول على رموز ومعتقدات ومقدسات اي دين، لابد من محاسبته وفق القانون.
خريطة طريق موجزة لمواجهة الكراهيات
في الوقت الذي نثمن فيه هذا الموقف المتزن من قبل رئاسة أقليم كوردستان، فأننا ومن مبدأ أعادة الثقة لأبناء المكون الإيزيدي المضطهد الذي لا يزال يعاني من أثار الإبادة الأخيرة وبعد تعرضه الى هذه الهجمة الخطيرة من قبل المتطرفين فأننا نجد بأن من واجب الحكومتين في المركز والأقليم العمل على صياغة وتبني القوانين والقرارات والتوصيات التالية:
أولا-من الناحية الدستورية والتشريعية
- من الضروري تعديل الدستور بأضافة مواد تضمن الحماية لجميع المكونات العراقية الأصيلة. وتشريع قوانين جديدة تساهم في الحد من خطابات الكراهية وتكون رادعاً لمروجيها ممن يقومون بأيقاظ الفتن. او على الأقل تحدد الأطر السليمة لأستخدام البعض من وسائل التواصل الأجتماعي التي تتناسب مع مجتمعاتنا وحظر البعض من التطبيقات الأخرى التي اصبحت منابراً لبث السموم بين أبناء الشعب ولاسيما فئة الشباب. وضرورة أنضمام العراق الى المواثيق والمعاهدات الدولية التي تلزمها في حفظ كرامة الأقليات الدينية وتعزز من حرية الدين والمعتقد ولا سيما تلك الاتفاقيات والمواثيق الأممية التي ستساهم في تسهيل سير العدالة فيما يخص قضية الإبادة الجماعية للإيزيديين واقرارها في محكمة الجنايات الدولية او في محاكم خاصة.
ثانيا- من الناحية الثقافية والتعليمية
- تعديل المناهج التربوية وأضافة مواد تدريسية عن أهمية التنوع وثقافة الأديان والتربية الأخلاقية وتنقيح مواد التربية الدينية من النصوص التي تحث على التطرف والأكراه وتهميش الأخر. وحث وزارة الثقافة على عمل برامج وورشات عمل ونشر ابحاث ودراسات سليمة وصحيحة عن الإيزيديين والمكونات العراقية الأخرى لتساهم في التعريف بهذه المكونات وكذلك تفنيد الصور النمطية الخاطئة عنهم.
ثالثا – من الناحية الإعلامية
العمل على بلورة رؤية سليمة للأعلاميين والقنوات الأعلامية وتأطير سياقات العمل الأعلامي وفق منهجية سليمة تحترم فيها جميع الأديان والمعتقدات ويتم فيها مراعاة ثقافة وتراث وحضارة جميع هذه المجاميع الدينية والقومية المتنوعة.
رابعا- من الناحية السياسية والإدارية
أشراك الإيزيديين والمكونات العراقية الأخرى في مراكز القرار في السلطات الثلاث وفي تشريع القوانين في المركز والإقليم. والعمل على أنشاء وحدات ادارية مستقلة في مناطق الإيزيديين يتم فيها أدارة المنطقة وحمايتها من قبل الإيزيديين أنفسهم.
خامسا – من ناحية ترشيد الخطاب الديني
ضرورة حث وزارة الأوقاف والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية على العمل على بلورة خطاب ديني معتدل تكون ركيزته المحبة والأخوة وتقبل الأخر وأن يكون بعيداً كل البعد عن الكراهية والتطرف.
خاتمة: المسؤولية التضامنية في مواجهة الكراهيات
إن عدم أخذ خطورة هذه الموجة الأخيرة من خطابات الكراهية ضد الإيزيديين على محمل الجد من قبل حكومتي المركز والأقليم ستساهم في تأجيج الأوضاع وأضعاف ركائز السلم المجتمعي مما سيدفع بالمجتمعات الضعيفة كالأيزيديين الى ترك أرض أباءهم وأجدادهم والهجرة نحو الغرب حيثُ سيؤدي ذلك بالنتيجة الى خلق صورة سلبية عن العراق والأقليم في منظور المجتمع الدولي، لذلك يقع على عاتق الحكومتين تدارك الموقف وتدارسه والعمل على تشخيص نقاط الخلل ومعالجتها لتصبح نقاط قوة تساهم في الحفاظ على هذا التنوع الجميل وتعزيزه في العراق والأقليم.