سیما تیڤی

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي الوفاق العميق، للانبعاث السحيق

دلشاد نعمان فرحان
بعد الإبادة، لم يخرج المجتمع الإيزيدي بجراح مادية ونفسية فقط، بل بما هو أعمق وأكثر خطورة، حيث تشظٍّ في الهوية الجماعية، وتفكك في النسيج الاجتماعي، وتآكل في الثقة الداخلية، لأن “الإبادة” لم تكن فعل عنف أيديولوجي فحسب، بل كانت تفكيكاً وجودياً طال البنية الرمزية والقيمية للمجتمع، مما أدى إلى تصاعد الانقسامات المناطقية والفكرية، وتحول الاختلاف إلى خصومة، بل إلى تسقيط ممنهج بين أبناء المجتمع الواحد.
إن آثار هذه الإبادة لا يمكن معالجتها بآليات سطحية، بل تستدعي مراجعة جذرية في المفاهيم الحاكمة للواقع الإيزيدي، وعلى رأسها الحاجة إلى حوار داخلي صريح، يُعيد تأسيس علاقة المجتمع بذاته، لا على أساس التطابق، بل على قاعدة التفاهم والاعتراف، حيث ناشد إليها “مؤتمر الحوارالإيزيدي-الإيزيدي”، وهنا نجد أن تصور الفارابي حول “المدينة الفاضلة” يقدم إطاراً فلسفياً بالغ الأهمية في هذا السياق.
إذ يرى الفارابي أن المدينة الفاضلة هي التي تتعاون فيها الجماعة لتحقيق (السعادة القصوى)، وهي لا تقوم على وحدة الرأي، بل على وحدة الغاية الأخلاقية، وفي المقابل، فإن المدينة الجاهلة هي التي تُحكم بالهوى، وتنهار تحت وطأة الخصام وغياب التفاهم، وإذا أسقطنا هذا التصور على الحالة الإيزيدية، نجد أن المجتمع يقف اليوم بين هاتين الحالتين: رغبة في التنظيم، وقوى تشدّه نحو التفتت واللاتفاهم.
وما نشهده من تراكم الكراهية، وانتشار ثقافة التخوين، ليس إلا مؤشراً على غياب ما يسميه الفارابي بـ(العقل الفعّال)، وهي القوى الكلية التي توجه المجتمع نحو غاية عقلانية، فبدون هذا العقل، يصبح الخطاب رد فعل انفعالي، وتنقسم الجماعة على ذاتها، وتضيع في متاهات الاتهام المتبادل والتسقيط الشخصي، لذلك فإن الحوار المطلوب اليوم ليس تفاوضاً بين أطراف مختلفة في الرؤى، بل هو شرط حضاري يعكس النضج الجماعي، ويتطلب أولاً التسامح مع الذات قبل التسامح مع الآخر، إذ لا يمكن بناء مشروع جماعي في ظل الذاكرة المجروحة، ودون التوصل إلى حدٍّ أدنى من التفاهمات المشتركة حول الهوية الدينية والأولويات الملحّة.
كما أن تجاوز آثار ما بعد الإبادة لا يتم بالشعارات فقط، بل بالانتقال من منطق الانفعال إلى التنظيم العقلاني للمصير الجماعي، فالإرادة وحدها لا تكفي، بل لا بد من تأطيرها ضمن مؤسسات حقيقية نابعة من إرادة قادرة على إنتاج خطاب متماسك، وتمثيل المجتمع بشكل فعّال أمام التحديات المتزايدة.
في النهاية، لا يمثل الحوار تنازلاً عن الثوابت، بل هو تعبير عن النضج الأخلاقي، ومسؤولية عميقة تجاه الأجيال القادمة، إنها الأداة التي من خلالها تستعيد الإيزيدية معناها الضائع، وتعيد بناء ذاتها في عالم ما بعد الإبادة، تماماً كما تصور الفارابي، حين تصبح المدينة الفاضلة ممكنة فقط عندما تتجاوز الجماعة اختلافاتها، وتجتمع على غاية أسمى، هي: النجاة بالذات، لا من الآخر فقط، بل من التشظي الداخلي.

><