كفاح محمود
واجهت كثير من مجتمعات بلداننا تحديات كبيرة في وجودها وديمومة حياتها وسط منطقة عجت بالأقوام والأعراق والأديان المتصارعة من أجل البقاء، والتناحر حتى الإبادة من اجل السيطرة على الأرض وما فوقها، حيث سادت أقوام ثم أبيدت ولم يتبق منها الا ما تركته من أثر ملموس او مجموعة قصص وروايات في منظومة الميثولوجيا، وأكثر ما ميّز تلك المجتمعات في التاريخ المعاصر هو كيفية التعبير عن الانتماء ومشروعيته وخاصة فيما يتعلق بأسماء الأفراد والعشائر وما يلحق بتلك الأسماء من ألقاب وكنى لتوصيف عنوان الارتباط او الانتماء، فبينما تركز بعض تلك المجتمعات على مشروعية النسب للتعبير عن الأصالة أو الانتماء، تنحى مجموعات أخرى الى التعبير عن ذلك الارتباط بإلحاق اسم المنطقة أو الأرض كلقب أو كنية للفرد او العشيرة.
وفي كلتا الحالتين تعبر المجتمعات عن إشكالية معينة تعاني منها وتنعكس على نشاطها وحركتها وعناوينها فردا ومجموعة، ومنها تداعيات ظاهرة الغزو بين القبائل والمناطق وما يترتب على تلك العمليات ومخرجاتها من ضحايا السبي والعبودية والزواج المكره وتأثيره في اختلال الأنساب ومن ثم الانتماء، وبتراكم تلك العمليات أصبح من اللزوم التعبير عن المشروعية في النسب الصحيح لشجرة الأسرة ومن ثم العشيرة وصولاً إلى الجد الأعلى لإثبات شرعية ذلك النسب والانتماء، ويأتي اللقب والكنية ليؤكد ذلك النسب القبلي إكمالا لتلك المشروعية ولتأكيد الارتباط.
من جهة أخرى وفي مجتمعات لم تكن فيها ظاهرة الغزو سائدة، عبرت بشكل آخر عما تعاني منه او ينقصها، خاصة ما يتعلق بالانتماء للأرض، حيث تنتمي العديد من المجموعات البشرية إلى الأرض، سواء كانت قرية أو مدينة، سهل او جبل بعلاقة حميمة وارتباط وثيق يتحول إلى عنوان أو رمز أو لقب أو كنية تلازم اسم الفرد وتكون لصيقة به، ورغم أن شعوب عديدة تتصف بذات المواصفات، إلا أن الحالة في العراق وكوردستان خاصة تبدو أكثر كثافة، فالانتماء للأرض هنا يصل إلى القدسية، وهو يرتبط بظروف قاهرة فرضتها الأنظمة التي حكمت البلاد، وما عانته تلك المجتمعات من طغيان وظلم كبيرين بسبب انتمائها وارتباطها بأرضها التي تسكنها منذ آلاف السنين ويحتلها الآخرون بأي شكل من الأشكال، وما زاد الطين بلة في التاريخ المعاصر هو ذلك التفويض الذي منحته معاهدة استعمارية بائسة (اتفاقية سايكس بيكو) التي مزقت الشرق الأوسط وخلقت فيه كيانات مفروضة لخدمة مصالحها وفي غياب كامل لرأي أهل الأرض ومكوناتهم، مما جعلها تدخل في صراعات كارثية من اجل وجودها والتعبير عن انتمائها بشتى الطرق والأساليب للمحافظة على هويتها امام طوفان من الاحتواء والاذابة والتغيير الديموغرافي.
إن غياب مفهوم المواطنة وانعدام العدالة وتسلط عرق او دين أو طائفة على الآخرين المختلفين، خلق جوا من الصراعات والإرهاب والاقتتال، مما جعل الفرد والجماعة في دائرة الخوف الذي دفعهم الى الاحتماء في فرعيات خارج مفهوم المواطنة تضمن لهم الأمن والسلام وتُشدِّد انتمائهم القبلي والديني والطائفي والمناطقي، وبالتالي أدى هذا التقوقع الى تقهقر تلك البلدان وتخلفها عن ركب الدول والمجتمعات المتقدمة.
إن الحل الأمثل لإشكالية هذه الدول التي تتكون من قوميات واعراق واديان وطوائف متعددة، هو النظام الفيدرالي الذي يمنح تلك المكونات، كبيرة كانت ام صغيرة، حقوقها كاملة بما يؤمن لها العيش الحر والمستقر بعيدا عما يسمى بالأغلبية او الشقيق الأكبر، وينهي حالة الخوف والصراع والشعور بالنقص، ويفتح افاقا رحبة للتطور والازدهار، وافضل نموذج لنا في المنطقة هو نموذج كوردستان العراق وقبله الامارات العربية المتحدة، حيث حقق البلدين ما عجزت عنه بقية الأنظمة المماثلة رغم ما يشوب التجربة العراقية من بعض النواقص من قبل مجاميع ما تزال تحلم بتدوير حكم شمولي مركزي يلغي خصوصيات المكونات وحقوقها الوطنية، الا ان الإقليم حقق نجاحا كبيرا قياسا بما هو الحال في بقية محافظات العراق واقاليمه الجغرافية.