سیما تیڤی

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي نظام الذات، خطاب الثبات (الحلقة الرابع عشر)

دلشاد نعمان فرحان

إن أحد أبرز معالم الأزمة في الواقع الإيزيدي المعاصر، لا يكمن فقط في التحديات الخارجية أو الضغوط البنيوية، بل يتجسّد (بوجه أكثر عمقًا) في غياب التنظيم المؤسسي، وتَفشّي النزعة الفردانية العشوائية التي تُبدّد الجهد وتُعطّل الأثر، وإننا اليوم بحاجة ماسّة إلى هندسة جديدة للفعل الجماعي، تُبنى لا على النوايا الطيبة فحسب، بل على ركائز عقلانية تُحاكي نظريات التوازن والاتساق البنيوي، كما طُرحت في الفلسفة الكلاسيكية.
وفي هذا السياق، تُعدّ نظرية المدينة الفاضلة لأفلاطون نموذجاً تأصيلياً يمكن الاستئناس به، لا بوصفه نموذجاً طوباوياُ جامداً، بل كخريطة فكرية تُرشدنا نحو مفهوم التنظيم الأخلاقي والسياسي العادل، فأفلاطون لم يكن يُنظّر لمجتمع يحكمه الاستبداد أو الامتيازات الطبقية، بل لمجتمع تُوزَّع فيه المهام بحسب الاستعدادات، وتُدار فيه المؤسسات بعقلانية معيارية، ويُفهم فيه الانسجام لا كقمع للاختلاف، بل كتناغم وظيفي يخلق وحدة في التنوّع.
فكما أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا بوجود طبقات وظيفية تؤدي أدوارها في سياق كلّي منظم، كذلك يمكن القول إن النهضة المجتمعية الإيزيدية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تأسيس مجالس تخصصية تؤطر العمل الجماعي وتُخرج المبادرات من الطور الانفعالي إلى الطور البنيوي، لأن هذه المجالس، حتى وإن كانت نسبية ومحدودة في بدايتها، فإنها تشكل بذوراً أولى لنمط جديد من الوعي المؤسسي، ولقطيعة ضرورية مع إرث الفوضى والتداخلات الشخصية.
العمل الفردي، حين لا يُؤطر بمنظومة، يتحول من مبادرة خيّرة إلى طاقة مهدورة، ومن هنا فإننا لا نحتاج فقط إلى إرادة التغيير، بل إلى هندسة التغيير، وذلك عبر بناء مؤسسات مدنية مستقلّة تُدار بكفاءات نوعية، وتشتغل على وفق أُطر معيارية واضحة، تُراعي روح التخصص وتحترم منطق المسؤولية.
في فلسفة أفلاطون، العدالة ليست فقط فضيلة فردية، بل هي شرط لبقاء المدينة، وكذلك التنظيم المؤسسي اليوم ليس رفاهاُ إدارياً، بل هو ضمانة وجودية لإدامة المعنى والفاعلية، وإن أي محاولة للنهوض المجتمعي، في ظل غياب البنية المؤسسية، ستظل محكومة بمنطق الاجتهادات الشخصية وردود الأفعال فقط.
ومن هذا المنطلق، يصبح إنشاء مراكز أو مؤسسات أو مجالس استشارية وفنية خطوة محورية لإعادة ضبط البوصلة، ووضع سياسات مستندة إلى تشخيص علمي ووعي استراتيجي، وهذه الخطوة لا تهدف إلى احتكار الرأي، بل إلى خلق بيئة مهنية تسمح بتكامل الجهود وتراكم المعارف.
ففي النهاية، كما كانت المدينة الفاضلة عند أفلاطون مشروطة بحُسن توزيع الوظائف وتحكيم العقل، كذلك فإن المجتمع الإيزيدي لن ينتقل من التهميش إلى الفاعلية إلا إذا اختار أن يُعيد إنتاج ذاته ضمن مشروع عقلاني، أخلاقي، ومؤسسي، يؤمن بأن التقدّم ليس صدفة، بل نظام يُبنى بالاجتهاد والانضباط.

><