(الحلقة الثامنة)
دلشاد نعمان فرحان
تمرّ القضية الإيزيدية بمنعطف وجودي بعد الإبادة الجماعية في 2014، فلم تكن المجازر فعل إبادة بيولوجي فقط، بل كانت تفكيكاً بنيوياً للذات الجماعية، وضرباً في عمق الهوية، بما يتجاوز الدمار المادي نحو “القتل الرمزي” للكينونة الإيزيدية.
في هذا السياق، تتضح ضرورة إطلاق حوار إيزيدي – إيزيدي، بوصفه استحقاقاً حضارياً وأخلاقياً، لا مجرد ترف نخبوي، لأن غياب المصالحة البينية يعمّق “الاغتراب الذاتي” ويفاقم “التشيؤ الاجتماعي”، حيث يتحول الأفراد إلى كتل منفصلة، تعيش في عزلة رمزية عن جماعة تعاني أصلاً من الانشطار في سرديتها الجمعية.
تُظهر نظرية “الاعتراف (لأكسل هونيث): أن الكرامة الإنسانية تتجلى في القدرة على نيل الاعتراف في ثلاثة أبعاد: الحب، الحقوق، والتقدير الاجتماعي، ووفق هذا المنظور، فإن الأيزيديين ما بعد الإبادة يعيشون حرماناً مركباً من الاعتراف: تهميشاً سياسياً، كسراً ثقافياً، وشتاتاً نفسياً، ومن هنا، يغدو الحوار الداخلي شرطاً تأسيسياً لإعادة إنتاج الذات الجماعية، عبر استعادة (الاعتراف المتبادل) بين مكوّناتها، لا سيما في ظل التصدعات التي أحدثتها صدمة الإبادة والانقسامات المترتبة عليها.
إن استمرار الانكفاء على الذات والأحتراب الرمزي داخل الصف الإيزيدي، لا يعني سوى تكريس ما أسماه (هابرماس) بـ”العجز عن التواصل”، وهو عجز أخطر من الهزائم العسكرية، لأنه يعطّل إمكانية إنتاج مشروع جمعي عقلاني، أما التماطل في إطلاق حوار داخلي صريح، فيؤدي إلى مزيد من (التمزق السردي)، حيث لا يتفق الأيزيديون على رواية مشتركة لمأساتهم أو رؤيتهم لمستقبلهم.
جيل ما بعد الإبادة يواجه الآن مسؤولية تاريخية مزدوجة: أولاً، ألا يسمح بأن تتحوّل الذاكرة الجمعية إلى محض نوستاليجا مأساوية تُختزل في خطاب الضحية، وثانياً، أن يبادر إلى تنظيم الذات الجماعية في أطر مؤسساتية عقلانية، تُخرج الخطاب الإيزيدي من دوائر الارتجال وردود الأفعال إلى مسارات الفاعلية والمأسسة.
إننا، اليوم، أمام لحظة مفصلية، فإما أن نرتقي إلى مستوى الوعي بالذات التاريخية، ونؤسس لنمط جديد من (التضامن القيمي) يتجاوز التخندق والهويات الجيوسياسية، وإما أن نظل أسرى ما أسماه (بول ريكور) بـ”جراح الذاكرة”، نعيد إنتاج الألم في صور جديدة من التشرذم والفقدان.
وليس المطلوب الآن التوحد تحت رؤية أيديولوجية واحدة، بل الاتفاق على مشتركات تأسيسية تُعيد بناء العقد الاجتماعي الإيزيدي، وهذا لا يتأتى إلا بالحوار، لا كآلية تفاوض، بل كممارسة أنطولوجية تعيد ترميم الذوات المتكسرة، وتُعيد تعريف ما يعنيه أن نكون “أيزيديين” في زمن ما بعد الإبادة.