حيدر عربو اليوسفاني
من العادات والتقاليد ما هو متوارث عن الآباء والأجداد حتى تغدو هذه العادات والتقاليد من التراث او الموروث الشعبي لشعبٍ ما او منطقة معينة حتى تأخذ الشكل المتوافق مع البيئة وطريقة العيش ونمط العلاقات الاجتماعية، تتضمن هذه العادات من الــــولادة وأغانـــي الأطفال والعــاب الأطفال فالمِــهنْ والحِــرف اليدوية والـــــزواج والمناســـبات الاجتماعية المختلفة وحتى في الحداد.
وتتعدى هذه الحالة إلى الموروث ما هو متعلق بالطعام ونوعيته واصنافه بحسب ما تجود به تلك الطبيعة او المنطقة بنوع من الطعام دون غيره وبالأخص النبات الطبيعي ،الذي هو المورد الرئيسي لطعام الفرد وقوته اليومي، كأن يكون المصدر نباتياً أو حيوانياً وبحسب مواسم السنة فتبرز في الصدارة المنتوجات الحقلية من البقوليات والحبوب والخضراوات.
وأهم هذه الممارسات هو ما يتعلق “بالبـــــرغل” الاكلة الأكثر شعبيةً في المنطقة جبل شنكال وما يرافقها من طقوس وتحضيرات وتهيئة من غسل الحنطة ثم احضار الحطب ،ثم التحريك المستمر للحنطة ثم شطف السطوح ثم مراحل “الهبــش” و”الجـــرش” و”الغربلـــة” ورغم التطور فقد طرأت بعض التغييرات الطفيفة من حيث استخدام الغاز بدل الحطب.
و بعد انتهاء موسم الحصاد و البيادر و جمع الانتاج تقوم النسوة بمساعدة الرجال بفرز و تنظيف قسم من محصول حبات القمح الجيدة من الشوائب المختلفة و تحضيرها للسليقة ، اذا توضع كمية من القمح المراد عملها في (دست) كبير نوعاً ما يسمى (دست سلقان) اي بالكوردي ( سيتلا ساڤارێ) و تبدأ النسوة بوضع كمية من الحطب تحته لغرض اشعال النار، وعادةً تبدأ عميلة السليقة مع مطلع الفجر، و بعد ان تستوي السليقة عل النار تبدأ عملية النقل الى سطح المنزل ليتم نشرها أمام الشمس.
( سيتلا ساڤارێ) وضع كمية من الحطب تحته لغرض اشعال النار
و يأتي دور الشباب والشابات النشيطين لنقل السليقة إلى سطح أحد المنازل النظيفة ،بعد تجفيف السليقة قليلاً من الماء بواسطة مصفاة خاصة ومن ثم نقله وفرشه بطبقة رقيقة على السطح ،ويتكفل بعدها شخص من الأسرة بتحريكه عند فجر كل يوم حتى يصل إلى مرحلة اليباس حيث يجمع في أكياس نظيفة لحين جرشه إما عن طريق آلة بدائية من الحجر الخشن الثقيل، وغالبا ما يكون من حجر البازلت والتي تسمى حجر الرحى (ده ستار) أو عن طريق آلة ميكانيكية حديثة تعمل على الديزيل.
صحيح أن العملية تأخذ وقتاً ويلزمها التفرغ والتعب الكثير ،إلا أن هذا التعب الذي يلزم لتحضير مؤونة البيت من البرغل والسميد بأنواعه الخشن والناعم ،له طعم ومتعة وقيمة خاصة ،وهذا البرغل بالتأكيد أفضل من الموجود في السوق ،الذي لانعرف أصله وفصله فطعمه وقيمته مثل طعم ذلك الخبز الذي يخبز في التنور ،وكذلك أن تأمين غذاء الأسرة الصحي والجيد والنظيف من أهم واجبات رب الأسرة ( الرجل أو المرأة ) خاصة إذا تكلل هذا الواجب المقدس في تأمين قوت الأسرة بروح من التعاون والمحبة والالفة بين أفراد الأسرة.
الجدير بالذكر ، عندما يبادر بيت من أهالي جبل شنكال لعمل السليقة يتجمع اولاد الجيران حول نار الموقد لطهي القمح حاملين صحونهم بايديهم منتظرين القمح حتى يتجهز لتناولها و يسمى القمح المسلوق باللهجة الشنكالية (دانوك)
و في هذا الوقت من السنة اي في بداية فصل الخريف تبدأ عملية سليقة البرغل كإيذان بقرب فصل الشتاء.
و منذ القدم عمل ابناء الشنكاليين في زراعة كافة أنواع الحبوب بعد ان عرفوا قيمتها الغذائية ،و كانوا يعملون بجد ونشاط ضمن أجواء احتفالية و تعاونية رائعة ، و ترسخت وقتها الكثير من القيم و الاخلاق النبيلة بين أفراد الاسرة و المجتمع ، هذه القيم التي باتت مفقودة نوعاً ما في هذا الزمان المغبر و المادي .و هناك اقوال يرددها الشنكاليون ان البرغل المصنوع من يد الامهات فيه نكهةٌ اطيب من نكهة البرغل المصنوع في المعامل ، و صدق ما قال ان البرغل فتح شهيتي و ملأ معدتي بفصل جدتي.