حليمة شنكالي
خرج من حلبة الرقص ووقف بين المتفرجين غارقا يتأملها راقصة،كف الجميع عن الرقص بعد برهة،فلمحها تمسح جبينها القمري باصابع طويلة رفيعة بيضاء ايقن انها خلقت خصيصا لعزف الموسيقى غابت هي بين الناس وابتعد هو عنهم.
وبعد حوالي الساعة كان قد غاب تماماً في سحر الطبيعة مستلقيا على ظهره باسترخاء تام على “قراج اسمري” في سنجار،اعتدل وجلس القرفصاء و تراءى له بأنه يعزف معزوفه “قازي شلو” التي فشل في اجادة عزفها لحد تلك اللحظة،تمادى بخياله فتراءت هي أمامه تنشر رموز تلك المعزوفة بحركات راقصة و اصبح لكل جزء من جسدها دوراً في فك رموزها .
واختطفها فيما بعد وتزوجها واصبح طنبورفاناً.
سرعان ما رحل من بلدته سنجار ليعيش تحت خيمة اقليم كوردستان العراق بينما لم تمضي عدة سنوات على زواجهما،حينها كان في عنفوان شبابه و حديث التخرج من الجامعة.
ومرت الحياة مريرة حيث يرزخ الانسان تحت كوابيس العسف لكنه لم يمت ،اجل هو اليوم مازال حيا.
وفي يوم من ايام شهر نيسان حيث يسود الحصار يسافر منذ الصباح الباكر الى
مدينه الموصل و يعود الى البيت حاملاً ما يقارب كيلوين من الطماطم التي نجت بقدرة قادر ولم تؤخذ منه لترمى على قارعة الطريق تحت الأقدام مع المواد الغذائية الأخرى التي رميت والتي كان قد اشتراها على امل ان يوصلها بسلامة الى بيته ،اعطاها لزوجته ومضى يقنع نفسه بانها ستحل في جسم طفله معززة مكرمة ككيس المغذي الذي ينزف قطره فقطرة لتغذية المريض لكنها الغبية البليدة زوجته حدث ان مزجتها بدم اصابعها فلقد جرحت اصابعها بعمق بينما تفرم الطماطم فما كان منه و هو يشاهد الدم يسيل من يدها السوداء الخشنه القبيحة حتى هرع الي اناء الطماطم ليرميه بكل ما اوتي من قوه وهو يسب ويلعن!
خرج من البيت رغم ان الوقت كان متاخراً لكنه استطاع اللحاق بالباص وتمكن
من لقاء صديقه الشيوعي الذي خاطبه بعد سماعه لشكواه من زوجته قائلاً:-
– انك قصير النظر وزوجتك ليست بليدة انما هو الفقر الكافر!
ثم التقى صديقه الاسلامي فهمس في اذنه شبه مازح:-
– انه الفقر يا كافر! ماذنب المستضعفة زوجتك ؟ولقد كان حتى النبي (ص) يدعو الله ان يكفيه شر الفقر،ثم الم يقل الامام علي (رض) لو كان الفقر رجل لقتلته؟ّ!
وحين بدا الظلام ينسج خيمته المعهودة صار عائداً الى البيت راجلاً.
وتذكر في الطريق بانه ايضاً سبق وان كان طوال سنين عديدة من عمره يحاول ان ينسج خيمة ايديولوجيا من لحمة الفكرين الاسلامي والماركسي.
اقترب من البيت شاعراً بأنه يحمل رأسه وان له ذراعين طويلتين فوضع يديه في
جيبي بنطاله ثم شبكهما تم أسدلهما وايقن كما في كل مرة انها زائدتان عن
الحاجة.
استيقظ ليلا بعد ساعة او اقل من النوم وعانى من الأرق،أيقن بان اللعنة الابدية قد حلت عليه في الدنيا و في الاخرة،فمنذ ان وجد نفسه في الدنيا و باب رزقه ضيق في بلاد الثروات و الخيرات الهائلة وذلك سيجعله يدلف الى عالم الاخرة بوجه غير ناصع،فهل رحمه الرب يوما و انزل بالظالمين عقاباً ما ليعيش لنفسه ،لبيته ولو لعدة أشهر من عمره ليحمده تعالى ويشكره ام سيبقى شعره يسابق الثلج في بياضه؟!
ابتسم شاعراً بسخافة الحياة التي عاشها ومازال يعيشها لكنه عاد فتذكر فيض
الديون التي تغرقه لكن كيف السبيل الى المال؟!
اي مال؟!
تساءل أنه لا يبحث عن المال الوفير انما يريد ان يعيش حياة عادية كريمة
وهو لا يريد سوى حقه الطبيعي في الحياه لكن اين حقه؟!
لقد عمل هنا و هناك والمرارة تقتله من اجل حصوله علي راتبه الوظيفي مادام الراتب هذا خير ستر لأمثاله من الفاشلين وعدم القادرين عل القيام باعمال اخرى الحلال منها و الحرام!
لكن يبدو ان هذا الستر قد تلاشى ايضا الى الابد!
تمزقت عده اوراق حاول ان يلفها بتبغ خشن رديء واشتاق الى سيكارة
سومر حاول بكل جهده ان يبسط راحتيه على ركبتيه وراح يحدق في يديه واعتراه
العجب انهما ليستا سوى يدي شخص مجرم!
انه يعرف قبل ان يقول له صديقه الشيوعي او الاسلامي انه الفقر، لقد طرد
الفقر ملامح الطيبة والجمال من يديه لكن هل هربت هذه الملامح من وجهه ايضاً؟!
انتفض مذعوراً لم يلمح في المرآة المكسورة التي رفعها من قعر طنبوره
العتيق غير عينين ذابلتين ووجه متعب واخذ يحاول ترتيب خصلات شعره الابيض،يقيناً لم يساهم حكم الجبهة الكردستانية لتبييض شعره لكنه لم يبال بفاقة
وعوز امثاله،وهذا ما جعله عصبي المزاج فكثيرا ما يسمع صدى صراخه في
البيت الذي استأجره حتى جدران البيت تصرخ بوجهه مؤكدة فشله وعجزه عن
شراء بدائل للاثاث واللوازم التي سرقت من بيته ابان الهجمة الفاشية
المضادة على كوردستان والتي تركت حتى الجدران جرداء صلدة تعيد صدى صوته
كما لو كان صوتاً من الغضب فيلجم من الغضب لسانه غيران جسمه يزداد
ارتجافاً .
رمى قطعة المرآة الي قعر الطنبور فاحدثت صوتاً كبيرا بحيث اخرج سحلية كبيره من صدع في جدار بيته وراحت تتراكض وهو يلاحقها بنظراته الفاحصة،متيقناً بانه سيهرول مثلها في الشوارع ذات يوم قريب ولربما سيضحك عليه ويستخف به اهالي هذه المدينة التي حل فيها منذ سنين بعد رحيله من بلدته
الاصلية، اجل حتى هؤلاء الذين احبهم واحبوه جدا سيظنونه مجنوناً وهو العازف الذي كان قد عزف لهم لحن “قازي شلو”في كثير من
*قازي شلو هي معزوفة سنجارية يقال ان القاضي شلو كان قد تعلمها من الجن واصبحت فيما بعد امتحاناً لكل عازف لنيل لقب طنبورفان.
* الأختطاف كان حالة شائعة في سنجار،حيث بوسع الحبيب ان يختطف حبيبته التي يرفض اهلها تزويجها له لأي سبب كان ويذهب بها الى بيت احدى الشخصيات السنجارية فيقوم هذا بدور الوساطة والتي تنتهي دائماً بالموافقة والتبريكات.