مراد سليمان علو
بعد كلّ فرمان نواجه أوقاتا صعبة، وأياما مؤلمة لا يمكن نسيانها، مثل اليوم الذي يقدم فيه فتى مثل (أنور خدر علو حكو) على الانتحار ويترك رسالة لأمّه يترجاها ألا تبكي بعد رحيله.
(لا تبكي يا أمي!) عنوان يصلح لمجموعة قصص قصيرة، وهذا ما سأفعله، في الأيام القادمة، وأرجوك ألا تبتسم بغضب فوصول (آلن ديلون) إلى أرذل العمر وعجزه عن التمثيل ليست بمشكلة مقارنة مع انتحار فتى تعرفه، وكنت تعرف أبيه.
أعلم كم طيب هو قلبك، وكم تتمنى من كلّ قلبك الطيب لو كان جيرانك في المخيم يتحدثون عن الأفلام الفرنسية وينسون مسائل الانتحار.
أعلم تتمنى بداخلك كلما جاء الثالث من آب لو أنهم يلتهون بقراءة قصص (نسيمة شلال) ولا يذهبون لتقديم العزاء لـ (شمّا ديرو).
ولكن من يقدر على لملمة ذكريات القرى وأحلام الصيف معا، فما أن يبدأ نهار الثالث من آب المشؤوم حتى أهرع قبل الكل وأحضن (أمّ جيلان) وأبكي معها بينما لساني يتمتم ببقايا قصّة قصيرة مدهشة لـ (نسيمة شلال).
الظروف السيئة بعد الفرمانات تعني أن تعاني الفقر ومع كل لقمة خبز يابسة أدرك أن حكايات قرية (السكينية العليا) في ليالي ديوان الأسطورة (عليّ حربا) كانت تبدأ بفتى فقير ولكن خاله إنسان جيد وعمه رجل شجاع، ومشكلتهم الأزلية هي فقرهم، ولكن عادة ينجون من الفقر بالعثور على كنز مدفون، أو ذلك الفتى الطيب يتزوج من فتاة غنية أو أميرة وتحقق له أمنياته الثلاث، والعمّ (علي حربا) كان أشهر من مضمد الوحدة الصحية (أبو شاكر) فقد كان طحّانا يدير طاحونة القرية المائية، وكان حطابا يحطب خشب البلوط من الجبل، وكان نجارا يصنع الملاعق الخشبية الكبيرة والصغيرة، وكان يجيد صنع الآلات الموسيقية مثل الطنبور، وهو فنان يجيد العزف ويغني المواويل، وهو حكواتي يحكي لنا في المساء حكايات ليالي القرى المعروفة، وبعد كلّ هذا كان فلاحا مجدا، والآن أولاده وأحفاده فنانون يشار لهم بالبنان.
أثناء الفرمان أدركت بأن الأيزيدية لا يجدون الكنوز وشبابهم ينتحرون، ولا يعثرون على أغنياء ليتزوجوا من بناتهم، والقلة التي لا يمكن خداعهم يهربون إلى ألمانيا ليطالبوا بحصتهم من مردود متاحف برلين التي تعرض آثار أجدادهم، ويسمعون موسيقى فاغنر بدلا عن أغاني (بير مجو).
أسوأ شيء في المهجر أن لا تسعفك لغتك الألمانية على قراءة (هكذا تكلم زرادشت)، وتقرأها بترجمة رديئة مرة واحدة فقط، فهذا يعني التجوال في شوارع مدينة (أوسنابروك) وكأنك تسير في سوق شنكال التحتاني.
في الحقيقة الأهالي يؤكدون لك هناك كنز ومكانه مذكور في أسطورة شنكالية، ولكنهم نسوا الأسطورة فلا نعرف كيف بدأت ومتى ومع من وأين انتهت فقد غادرتنا الآلهة من زمان، والأساطير لا تكتمل دون آلهة.
عندما يحكي لك رجل مسّن عن واقعة تحدث في المحلة المجاورة، وإن الشباب بدأوا يكشرون عن أنيابهم، ويمدون أيديهم على طولها، وقد تكون مقابلة غير متكافئة، فالكثير من اللحم سيقشط عن العظام دون رحمة، فهذا يعني بأن ذاك الشايب من شنكال، وهناك وليمة في تلك المحلة، ويتوفر البرغل واللحم بكميات تكفي العشيرة كلها، ولا توجد عركة ولا هم يحزنون، إنما هذا (كود) منقول من أيام الحصار الكبير؛ لمعرفة ما يجري.
أن تكون شنكاليا فهذا يعني أنك تشبه (بيتهوفن) تؤلف الموسيقى ولا تقدر على سماعها، وأن يترك فتى وليمة ـ لا يخجل المرء من دعوة (بود سبنسر) إليها ـ ويرحل تاركا كل شيء وناسيا مجريات أحداث الأسطورة، ويتحقق من وجودة بالاستماع إلى أغنية صاخبة ل (مايكل جاكسون) أمر يثير استغراب القوّالين المرافقين للسنجق في موعد طوافها.
أنا أرفض الأدب كمهنة محتملة تدر الأرباح، ومع ذلك لم أزاول نشاطا مستمرا في حياتي غير قراءة وكتابة الأدب وكل ما أتمناه هو الخروج من مداره فشكلت مع الجالسين على الوليمة ناديا أدبيا سميناه (أخوّة الذئاب الجائعة) ثم غيرنا الاسم إلى (ذوي الأنياب الحادة) والآن نسمي أنفسنا (فتيان ما بعد الفرمان) وقد تعهدنا بولائنا لبعضنا وكل شهر نجري القرعة، ومن وقعت عليه قرعتنا؛ ينتحر بطريقة يختارها لنفسه والبقية عليهم احترام اختياره، ونسميه بعد ذلك وإكراما لذكراه ب (الأستاذ).
اخترنا الضفادع كرمز لمجموعتنا لأنها سيئة الحظ ومع ذلك سعيدة، ثم انتقلنا للمرحلة التالية من علاقتنا ببعضنا فكان لزاما علينا قراءة (قصيدة الغراب) لـ (أدغار ألن بو) واخترنا الأبوام رمزا لأنها حزينة ولكنها محظوظة.
وكان كل واحد منا يدعى (لاكنش)، فهناك (لاكنش الأول) و(لاكنش الثاني)، وهكذا، وقبل أن نهاجر كشفت لهم عن سرّ أسمائنا فقد كان (لاكنش) مكانا وليس اسما، مكان قديم يصعب الوصول إليه، مكان مقدس تحيطه بساتين التين والزيتون وجذورها تتلامس في عمق الأرض وتحتفظ بتلك الأسطورة الضائعة ويتوسط المكان عين ماء بارد عليها شجرة ضخمة يجلس في ظلها أمير يقرأ قصص (نسيمة شلال) ويسمع من مسجل ياباني ماركة (ناشيونال) آهات وبكاء (داي شمّى).
من يصل إلى ذلك المكان ينسى نفسه ويبقى هناك دون أن ينتحر وإن شرب من ذلك الينبوع يصبح خالدا لا يموت ويتحد بالمكان ويفهم الأسطورة شيئا فشيئا، ويعلم بأن ليس لهذه العجائب نهاية والمفاجئات بعدد النجوم الزرقاء البعيدة.
المكان ساحر وبهيج يشبه فلما ل (شامي كابور) يبدأ بموسيقى راقصة وينتهي بأغنية، يشبه قصّة قصيرة لـ (نسيمة شلال) لم تنتهي من كتابتها بعد، المكان يشبه دموع (داي شمّى) البلورية. وللمكان أيضا روح ومن يصل إليه يمتلئ بروح المكان.
كمن يعزف مقطوعة (بغداد) للعبقري (منير بشير) وينبري له صعلوك يصيح به: أليس لديك شيء أكثر إبهاجا من هذا؟ فتغتمّ الأوتار قبل أن يدّب الجزع الأنامل، أمّا الوجه فتقطر من تقاطيعه قصيدة لشاعر ينبئ بهدير فرمان قادم واللحظة تتوّج بأكاليل من أزهار الموت، وسؤال أصفر عتيق يطفو من الذاكرة:
كيف وصلنا إلى هذه المدن الغريبة؟
كمن يخون رفاقه الشعراء بقصيدة فارغة وأصدقائه يظهرون كل ما هو منحط، ولكن الشاعر الذي يتمنى أن يحصل على بيت فخم وقطيع من الكلاب يرى من غير النبالة أن يتخلى عن قصيدته، فهو يريد أن يحافظ على السرّ، سرّ المكان.
الأساطير أكثر نبالة من الشعر، قد يكون الشعر مفتاحا لألغاز عصيّة ولكن الأسطورة هي التي تحمل المشكلة والحل معا، كزوبعة تصالح القصة مع الدمعة، وتصلح ما بين الآلهة والبشر وترتق الفجوة التي بين الأرض والسماوات، فما عليك سوى أن تترك الحبّ وتقفز فوق الشعر لتجد نفسك في أحضان وحش فالت من أقرب أسطورة كان يسرد تفاصيلها جارنا الطيب (حموكا محي).
أنا على استعداد أن ابقي ساعتي على العاشرة وعشر دقائق إن أمسكت بيدي وهمست بأغنية عن طفل يحب أمه أكثر من الفراشات والعصافير والزهور، فمنذ أن فقدت أمي وأنا أحلم بها كل ليلة وفي الحلم أخشى أن أفقدها وأنهض باكيا.
مستعد أن أمثل دور (الملك لير)، وأكون تراجيديا جدا، وأستمع إلى السيمفونية الخامسة ل (بيتهوفن) وإيغالا في العقاب أقرأ قصيدة (غريب على الخليج) ل (بدر شاكر السياب). إن مسكت بيدي واشتريت لي باقة بالونات ملونة، وآيس كريم وأخذتني إلى (شارع المتنبي) في يوم الجمعة لنبحث معا عن شاعرة من (سيباى)، وسأدخل (مقهى حسن عجمي) لملاقاة بعض شعراء الستينات، وفجأة أشعر بدوار ضغط الدم المرتفع فلا أدري إن كنت في (شارع النجفي) في الموصل أم في السوق التحتاني قبالة المكتبة الفرعية في شنكال، أم في شارع المتنبي في بغداد، من شدة فرحي بدأت الغناء بلغة جديدة، بأبجدية تليق بهيبة المكان، أغني وأستمر بالغناء وساعتي ما تزال تشير إلى العاشرة وعشر دقائق، حروف جميلة تنساب منها موسيقى تشبه ضوء القمر بمرافقة أضواء نجوم من مجرة غريبة وهي تنزل من قمة جبل شنكال إلى دبكة في (مزار الملك فخر الدين). ومن تأثرها بأمواج العاطفة التي تصاحب نهاية الحروف تقرر الفراشات الهجرة قبل موعدها بسبعة أيام.
أن تحب شخصا وتتأذى في مسعاك بسببه يجعلك مؤهلا لتقص حكايتك على شعراءك المفضلين وطبعا الألم يكون مضاعفا كلما قال أحدهم وهو يرتشف من استكانته شايه العراقي المهيّل:
(هذا جميل)، فأنت تعلم ما يعنيه هو الألم وليس الجمال، وفي نهاية الجلسة يسألك شاعر خجول إن كانت جذور كلمات أغنيتك من (قرية جيكور)، فتطلب منه بلطف (سيجارة سومر) فلقد أغراك هذا الشاعر توّا بالتحدث إلى الشمس ساعة المغيب.
ثم، أخرج من المقهى وقد بدأت أوّل قصيدة لي بالتخمر جنبا إلى جنب قصّة قصيرة ودمعة حزينة في طريقها للنزول.
م/بمناسبة الذكرى العاشرة للفرمان الرابع والسبعون علينا