حليمة شنكالي :
القصة التاسعة
تسير”جانوو“ المعروفة بعينيها المختلفتين، عينها اليمنى صافية وسعيدة، والتي ترى بها ابنها ”سردار “ الذي أخذ من والده نحول جسده وهو يمسك بيدها اليمنى. وعينها الأخرى اليسرى محمرة وملتهبة ومليئة بالدم، وترى بها ابنتها ”سارا“ التي تشبهها وهي تمسك بيدها اليسرى. يسير الثلاثة معًا في سوق دهوك لشراء بعض الاحتياجات قبل العودة إلى سنجار، بعد أن أدركت جانوو مثل معظم اللاجئين أن المخيم الذي يشبه المنفى والذي احتواهم لمدة عشر سنوات، لم يصبح لهم بيتًا أبدًا.
اخترع البشر طرقًا شتى لتحقيق الأمنيات منذ الأزل، منها هذا الشاب في سوق دهوك الذي يحمل في يده قفصًا كبيرًا ممتلئًا بالعصافير، ليشتريها المارة ويطلقوا سراحها وهم يتمنون أمنية ما. انفتح باب القفص فجأة وطارت كافة العصافير مما خلق البهجة بين المارة، وحده كان صاحب القفص يلعن حظه العاثر وخسارته وهو يدير ظهره لجانوو بعدما وقع نظره على عينها الحمراء، سحبت سارا كفها من كف امها وطارت، تابعتها أمها بعينها المحمرة وهي بين سرب العصافير إلى أن غابت عن نظرها، فنظرت مبتسمة بعينها اليمنى إلى ابنها سردار وحثته على الإسراع بالمشي.
في مثل هذا اليوم، بتاريخ 4/8/2014 كانت جانوو تحتضن ابنها سردار وهو بعمر عدة شهور، فتصرخ ويصرخ الرضيع عندما كان أربعة وحوش من عصابات داعش ألأرهابية يتعاونون على ذبح زوجها لمقاومته تسليم ابنته الجميلة سارا ذات التسعة أعوام إليهم.
عاشت جانوو قصصًا مفجعة كثيرة ومتنوعة، جعلتها مرهقة وأعصابها متهالكة، لكنها تأثرت بشكل خاص بابنتها الطفلة التي وقعت بأيدي عصابات وحشية ومجرمة، مما جعلها تتعلق بلقاء روحي مع ابنتها. خصصت لابنتها سارا عينها اليسرى لمتابعتها، فانفصلت عينها اليسرى عن اليمنى تمامًا وخضعت تلك العين للقاء الروح بالروح، ولم تغمض هذه العين ولو للحظة منذ ذلك التاريخ المشؤوم ولحد يومنا هذا، بقيت سارا طوال هذه الفترة طفلة في التاسعة من عمرها، فالطفل لا يكبر عندما يُجبر على تجاوز مرحلة الطفولة. بقيت أمها تمشط لها شعرها، وتضفر لها ضفيرة واحدة تتدلى على ظهرها وفي نهايتها قرديلة عريضة بيضاء، تقشر لها البيضة وتملأ قدحها بالحليب صباحًا، وتضع لها أطباق الطعام في كل وجبة. وتشتري لها ملابس العيد، وكلما سألها ابنها سردار: لمن هذا يا ماما؟ ردت عليه: ليس لأحد، مجرد أنني تعودت على هذا الأمر.
في بقايا بيتهم المتهدم في سنجار، في غرفة محروقة الجدران، كانت مستلقية مع ابنها وابنتها على فراش النوم، على أرض من الأسمنت المتفتت. لا شيء آخر في الغرفة عدا منضدة خشبية قديمة. على يمينها ينام ابنها سردار، وعلى ذراعها الأيسر تضع سارا رأسها الصغير كما في كل مرة. أنصتت جانوو إلى أنفاس سارا إلى أن غلبها النوم، وبقيت سارا طوال الليل تتأمل بحب عين أمها الحمراء المملوءة بالدم والتي تبقى مفتوحة حتى عندما تنام. لا أحد يستطيع أن ينظر إلى عينك المحمرة الملتهبة المليئة بالدم ولا إلى أي تشوه خلقي لديك إلا من يحبك من أعماق روحه!
في الصباح الباكر بدأ نور الشمس يملأ الغرفة. توارت سارا عن الأنظار في اللحظة التي فتح أخوها سردار عينيه، واقترب من حضن أمه أكثر. اصيب بالدهشة عندما التقت عيناه بعيني امه، قال بصوت عالٍ ومبتهج:- ماما.. ماما لقد زال الاحمرار من عينك!
وثب من الفراش وأخذ الموبايل من على المنضدة الخشبية والتقط لها صورة وهو يقول:
– يبدو يا ماما أنك دعوت بشفاء عينك عندما كانت العصافير تطير يوم أمس في سوق دهوك.
نظرت جانوو إلى صورتها في الموبايل وهي تحتضن صغيرها. دهشت لتشابه عينيها، أغمضتهما وفتحتهما من جديد، وشعرت بصفاء ذهني. أخذت تُمني نفسها بأن سنجار هي بلسم لكل الجراح، وبأن سارا ستتحرر كما تحررت العصافير.