سما ، مراد سليمان علو
الكتب التي ألفت عن الفيلسوف نيتشه، وعن فلسفته ناهيك عن البحوث والمقالات.. الخ. أكثر من الكتب التي ألفها هو نفسه بمئات المرات، وبالتأكيد ستتضاعف هذه الكتب في المستقبل.
ياله من محظوظ نيتشه هذا! كتب كثيرة كتبت وستكتب عنه!
ولكن، لو كنت قارئا ممتازا، أي من النوع الذي يمكنه تقييم كتاب وتصنيفه بمجرد قراءته. لو كنت من هذا النوع سترى بأن معظم ما كتب عنه لم تفيه حقه، بمعني أنها بعيدة عمّا يريد نيتشه العزيز أن يقوله في كتاباته. أي أنهم كما يقول المثل العامي (يخوطون بصف الاستكانة).
لا شك أن أعظم ما كتبه فردريك نيتشه هو كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، أو هكذا يقال دائما ـ تكلمت عن هذا الكتاب وقصتي معه في كتابات سابقة، وكذلك يمكن الاطلاع على آلاف القراءات عن هذا الكتاب ـ وهنا سأوجز لكم الطريقة الدرامية التي بدأت بأكثر الكتب التي أثرت في الناس في العصر الحديث.
بداية كلام زرادشت:
لما وصل زرادشت الى عمر الثلاثين أكتشف أنه لم يعد قادرا على العيش وسط الناس، فهم لا يفهمونه، وهو بدوره لم يعد يفهمهم؛ ولذلك قرر أن يترك الناس ويترك حياته الرغيدة، ويصعد للجبل؛ ينشد الهدوء والوحدة التي يرغب فيها. وبدلا عن الناس يكلم الشمس أو القمر، ونسره وأفعوانه.
وهكذا تمر على وحدته في الغار وتأملاته في الطبيعة واكتشاف ذاته عشرة أعوام. وفي صباح ذات يوم خرج من مغارته وخاطب الشمس قائلا:
يا شمس! أية سعادة كانت ستكون لك لو لم تنر على الناس، ويستمتعوا بدفك ونورك ويشيدون بك. لعشر سنوات تتردد عليّ وعلى مغارتي، ولولاي، ولولا نسري وأفعواني لأصابك الملل من نورك الذي ترسله الينا. ولكننا كنا ننتظرك كل صباح لتفيض علينا بنورك ونشيد بك. لولانا لكانت حياتك بلا معنى. الملاحظ أن الشمس مؤنث، حتى باللغة الألمانية، ولكنه يخاطبها كنجم، والنجم مذكر، ولا أدري لماذا.
أريد أن أقلدك وأكون مثلك أيها النجم.
سأترك الجبل لألتقي بالناس.
وينزل زرادشت حتى يلتقي بشيخ وحيد في الغابة. وقال الشيخ مع نفسه أنني أعرف هذا الرجل فقد مرّ بي منذ عشر سنوات وكان مطفئ، وهو الآن منوّر كوجه طفل قد تناول في فطورة بيضة وكأس حليب ورغيف خبز حنطة مرشوش عليه سمسم مع أستكان شاي عراقي. وسأله:
”لماذا تريد أن تجرجر جسدك بنفسك من جديد يا زرادشت؟“.
ــ أنني أحب البشر.
ــ ومن حبي للبشر تراني هنا في الغابة، ولكنني أحب الله أكثر!
وبعد الافتراق الذي ليس منه بد، قال زرادشت مع نفسه بصوت مسموع:
”أيعقل هذا، هذا القديس العجوز لم يسمع هنا في غابه بعد، أن الله قد مات!“.
وذهب زرادشت الى البشر.
وهكذا بدأت القصّة، وتلك كانت البداية.
والسؤال هو:
هل كان زرادشت ذاهبا ليستنجد بالبشر، أم لينجدهم؟
ماذا قال نيتشه بلسان زرادشت للناس؟:
ــ أيها الناس، أنني اعلمكم الأنسان الأعلى. أن الأنسان شيء عليكم أن تتجاوزوه. ولكي يجعلنا نفهم ما يريد أن يقوله، فهو يدرك بحدسه أننا فينا شيء من الغباء، يقول بما معناه:
“كما أن القرد هو بالنسبة لحيوانات الغابة أضحوكة، هكذا هو الأنسان، أضحوكة بالنسبة للإنسان الأعلى الذي أثقف له، وأدعو اليه”.
وبهذه الطريقة الدرامية بدأت القصّة، الرواية، الديوان الشعري، الشذرات، القصص.. الخ من التسميات، وهو من أكثر الكتب التي أثرت في أنسان العصر الحديث.
ماذا أراد أن يقول نيتشه:
لنعد الى بداية الحوار: طبعا أكثر الناس يعتقدون أن نيتشه هو ملحد صرف وغير مؤمن وداعية للألحاد ويثقف للألحاد. لأنه بشر بموت الله وقد أعترف بذلك كتابة في جملته الشهيرة في بداية كتابة (هكذا تكلم زرادشت) ولكن نحتاج الى تفكيك فلسفة نيتشه ولنبدأ بمستهل زرادشت:
لنبدأ بالأسئلة التالية:
1ـ ما هو الدليل بأن نيتشه كان ملحدا؟
2ـ ما هو الدليل أن نيتشه كان يدعو للألحاد؟
يبدو أن نقطة الخلاف هي جملته الشهيرة (أن الله قد مات) بعد مقابلته للشيخ المؤمن في الغابة، ولكن مهلا أنه في بداية لقاءه بالشيخ كان زرادشت حريص جدا ان الا يسلب الشيخ أيمانه، أو يشككه في ايمانه، فهو كما نعلم قال (أحبّ الله). زرادشت كان يرى عند لقاءه بالشيخ أنه في غنى تام عن دعوته وتعاليمه. ومن هم بحاجة لسماع مواعظه أولئك الناس الذين يعيشون على الهامش وفي غفلة من حيواتهم؛ وهم بالتالي أناس خائفون وضعفاء ومرتبتهم هي الأنسان فقط وليس الأنسان الأعلى. ولهذا رحل عن الشيخ دون أن يعظه. وهذه نقطة يغفل عنها الباحثون والكتاب.
3ـ هل كان نيتشه يقصد بجملته (أن الله قد مات)، بمعنى (أننا قتلناه في داخلنا) نستكشف من لقاءه بالشيخ في الغاب هذا الشيء تماما.
أذن الأنسان في نظر نيتشه كان، وربمّا لا يزال بحاجة الى شيء جديد يخرجه من الظلمات التي يعيش فيها ومن الخوف من المواجهة.
نيتشه كان يرى وبلسان زرادشت، وزرادشت هذا بطل الرواية الخيالي وليس النبي زرادشت نفسه كما لا يخفى. كان يرى أن الدين أعطى القوة لرجال الدين والضعف للناس فنتج عن ذلك رجال دين يستغلون الضعفاء. والضعيف هو أنسان متقهقر في إنسانيته أي أن الله قد قتل في داخله لأن الله قوي وشجاع ويدعو للمواجهة لا للاستسلام والخنوع. الى درجة أنه أي نيتشه شبهه بالقرد وربما لهذا خط تحت عنوان كتابة عنوانا فرعيا: كتاب للجميع ولا لأحد. أي أنه كتاب بإمكان أي فرد أن يقرأه ويفهمه، ولكن في الحقيقة لا أحد يفهمه. ولهذا أيضا نرى أن نيتشه كان يشكو من الناس دوما ويجهر أنهم يسيئون فهمه دوما. وهذا ما حصل فجميع الذين كتبوا عن نيتشه كانوا يعيشون في عالم غير عالم نيتشه. حتى أن أدولف هتلر كان يعتبره فيلسوف النازية وأستخدم مفاهيمه بصورة مغلوطة ليعلن بها تفوق العرق الآري باعتباره هو الأنسان الأعلى الذي كان الفيلسوف يقصده. ومن المثير أن يكون صديقنا نيتشه قد رد عليهم جميعا في زمانه بصورة استباقية قائلا في نفس الكتاب بلسان زرادشت الذي لم أحب اسمه يوما قائلا:
”أن صغار الناس يتحدثون عني في سمرهم دون أن يفكر أحدهم بي، فتذهب ضجتهم تحوك دثارا لتفكيري فأتمتع بنوع من السكون ما كنت أعرفه من قبل“.
مسك الختام:
عندما تقرأ عن نيتشه بلسان الناس ستقترب من هؤلاء الناس، وستبتعد عن نيتشه.