سما
شمس منتصفِ النهار الحارّة والمحرقة في الصيف، تتكسر كشظايا من المرايا على الماء المنساب من الخرطوم على الشتلات شبه المتيبسة التي يرویها الشاعر “شيروان” في حديقة منزله. يرتدي بنطلونًا وقميصًا أبیض قصیر الکمین وينتعل حذاءً رياضيًا، تجعله وسامته واناقته أصغر من عمره الستینى بکثير. ورغم أنه يدير ظهره للبيت، إلا أنه يعرف أن زوجته تراقبه من خلال النافذة المطلة على الحديقة.
مر أكثر من ثلاثين عامًا وهما يعيشان معًا بخطوط متوازية، حتى مع طريقة التعامل مع ابنتيهما حتى تزوجتا. سقي شتلات ورود الحديقة عنده ضرورة رغم شحّة المياه، لكن عند زوجته ليس إلا نوع من أنواع جنون زوجها الشاعر!
الخطوط المتوازية عنيدة، لا تتقبل فكر الآخر، تتوه في الفضاء وتبتلعها الثقوب السوداء في الكون، بينما الخطوط الموجية مرنة، تقرّب وتبعد المسافات، مشابهة تمامًا لحياة الناس وتفاعلهم مع بعضهم. وقد جسدها الموسيقار المدهش بيتهوفن في معزوفته “سيمفونية القدر”.
قبل عدة أيام، القى شيروان قصيدته الجديدة بعنوان “أسطورة الورود”، يقول فيها إن جميع الورود كانت ذات لون أبيض، لكن بلبلًا وقع في غرام وردة بيضاء، فطار إليها، فجرحت أشواكها قلبه وتدفق دمه، امتلأت الوردة البيضاء باللون الأحمر. وبعد ذلك ظهر الورد الأحمر، ثم امتزجت الألوان وظهرت الورود بكافة الألوان عدا اللون الأزرق.
في قصيدته، قدّس شاعرنا اللون الأزرق، لأنه اللون الوحيد الذي رفض أن يكون لونًا من بين ألوان الورود التي جرحت البلبل. اللون الذي رفض أن يقابل الحب بالعذاب والجراح، فصفق الحضور بحماس له و تقديرًا لموقف اللون الأزرق!
یستمر شاعرنا بسقي شتلات الورود، متمنيًا عودة الحياة إليها ونجاح تقنيته بأقل نسبة من الماء وأقل فترة زمنية. فجأةً تقفز إلى ذهنه تقنية النازي “أدولف أيشمان”، الذي كُلِّف بإيجاد طريقة لإبادة اليهود بأقل تكلفة مادية وأقصر فترة زمنية، ونجح أدولف أيشمان في المشاركة في إبادة (6) ملايين يهودي.
يتذكر شاعرنا أن والد أدولف أیشمان كان يخدم في الجيش النمساوي، وأن أدولف عاش في النمسا منذ طفولته، لكن دولة النمسا اتخذت مسارًا مختلفًا 180 درجة عن فكر أدولف أيشمان. فليس غريبًا أن تحظى فيينا، عاصمة النمسا، بالمرتبة الأولى كأفضل مدينة للعيش في العالم. لأنها تهتم وتمجّد كل ما يجعل الإنسان مرفهًا وسعيدًا طوال حياته، بما في ذلك ترفيه الإنسان بسماع معزوفات بيتهوفن وموزارت وكل ما يسعد الروح.
طردت النمسا أدولف أیشمان من دنياها، قذفته بعيدًا، لتتناوب (40) تريليون ثقبًا أسودًا موجودًا في الكون على ابتلاعه واستفراغه.
فجأةً ينقطع تدفق الماء. يرفع شيروان رقبته الطويلة، ينظر إلى البعيد ويقول:
-ليس غريبًا أبدًا أن تجف المياه الجوفية ونهر دجلة في بلدٍ يسير على نفس المسار طوال تاريخه، حيث يقدس عقولٌا عفنة مليئة بالأحقاد والخرافات حتى يومنا هذا!