خيري ابراهيم كورو /كاتب إيزيدي
منذ فجر التاريخ، حاول الإنسان الإجابة عن أعمق الأسئلة المتعلقة بأصل الكون والحياة، كيف خلق الكون؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه التساؤلات لم تكن مجرد محاولات لفهم العالم المادي، بل كانت انعكاسًا لحاجة الإنسان لإيجاد معنى لوجوده وعلاقته بما وراء الطبيعة. ومع نشوء الحضارات والثقافات المتنوعة، تطورت روايات وأساطير وديانات مختلفة لتقدم رؤاها وتصوراتها حول الخلق والتكوين، كل منها يحمل بصماته الفريدة التي تعبر عن بيئته الفكرية والاجتماعية والروحية.
في الحضارة السومرية التي تعتبر من أقدم الحضارات الإنسانية، تروي قصة الخلق عن نشأة الكون وظهور الحياة من المياه الأزلية التي تجسدت في الإلهة “نمو”، الأم الأولى التي انجبت كل من اله السماء ( آن) واله الأرض (كي) ومن زواج آن وكي ولد (انليل) اله الهواء الذي ابعد السماء عن الارض لتبدا بعدها ظهور الشمس والقمر ونشوء الحياة على الارض1. على نحو مماثل، نجد في مصر القديمة أن الخليقة بدأت من “نون”، المياه الكونية الازلية، حيث بزغ منه الإله “اتون” الذي بدوره خلق عدد من الالهة الاخرى الذين اسندت اليهم خلق مكونات الكون الاخرى من اجل بث الحياة والنظام في العالم2.
أما عند الإغريق، فقد انبثق الكون من حالة الفراغ والخواء وحالة من الفوضى أطلق عليها “كاوس”، ومنها ظهرت الأرض “غايا” الارض الام التي انجبت اورانوس السماء بعدها تزوج اله السماء اورانوس من الهة الارض غايا لتبدا مسيرة الحياة على الارض3.
وعلى الجانب الآخر، نجد في الديانة الهندوسية رؤية مختلفة عن الخلق حيث يعتقد الهندوس ان (براهما) روح العالم خلق (مانو) اول البشر واخرج منه زوجة له فصاروا اول البشر وجاء منهم نسل البشرية، وبإرادة براهما ايضا خلقت جميع الكائنات4. في المقابل، تأتي الديانة اليهودية، ومن بعدها المسيحية، برؤية جديدة للخلق تبدأ بأمر الله: “ليكن نور”، حيث خُلق الكون في ستة أيام وفق نظام يضع الإنسان في مركز الخليقة. حيث خلق في كل يوم من الايام الستة مكونا من مكونات الكون الشمس والقمر والنجوم والبحار، او مجموعة من الكائنات مثل الحيوانات البحرية والطيور واخيرا خلق الانسان على صورته ليبدا مشوار الحياة5.
أما في الإسلام، فالقرآن الكريم يعرض تصورًا للخلق قريب الى حد ما من الديانة اليهودية والمسيحية كون الديانات الثلاثة من الديانات الابراهيمية وتشترك في الكثير من الامور، حيث خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وأبدع الإنسان من طين، ثم نفخ فيه من روحه لتبدأ الحياة على الارض6.
وسط هذا التنوع في الرؤى والتصورات حول الخليقة والتكوين، تظهر الديانة الأيزيدية كأحد أقدم الديانات الروحانية التي احتفظت برؤيتها الخاصة للخلق والتكوين. فرغم ما تعرضت له من اضطهاد وتهميش عبر العصور، حافظت الأيزيدية على أساطيرها ومعتقداتها الفريدة، التي تتداخل فيها الروحانية مع فلسفة الطبيعة.
عبر هذه البحث، سنحاول استكشاف هذه الرؤية الفريدة للخلق في الديانة الأيزيدية بالتفصيل اعتمادا على نصوصها المقدسة التي تناقلها الايزيديون جيل بعد جيل. ومن اجل ان تكون دراستنا هذه اكثر وضوحا وضمن سياق زمني محدد يمنح القارئ فهما اعمق لمراحل الخلق والتكوين في الديانة الأيزيدية ارتأينا عرضه في مجموعة من المراحل، وهي كالاتي:
المرحلة الاولى: حسب الديانة الأيزيدية قبل الخلق لم يكون هناك سوى الله (خودا) فهو أزلي. وكانت مشيئته ان تبدأ عملية الخلق، حيث خلق الله (درة) أوجدها من نفسه بكلمة منه. والدرة تعبير رمزي عن شيء ذو قيمة كبيرة جدا ويرمز ايضا الى المادة فهي اول شيء مادي خلقه الله، كما يظهر ذلك في (قەولێ شێخ وبەکر٧):
پەدشێ من دور ژخوە چێکر
سەیری وسەیران لێکر
ئو سێوری وبری پێکر
پەدشێ من دور ژخوە ڤاڤارا
دور قەندیلە کەمال دارە
قەندیلێ نور ستارە
دور ژکلیما پەدشێ یە
خەرقە دەرکەتی ژێ یە
دایم مێرا سلاڤ لێ یە
ربي خلق الدرة من ذاته
تأمل وفكر فيها
وشكلها وعمل عليها
ربي فرق الدرة من ذاته
الدرة وهج من الكمال
وهج يفيض منه النور
الدرة من كلمة الله
منها خرجت الخرقة
الأولياء دائمي السلام عليها
المرحلة الثانية: وبعد مرور فترة من الزمن، خلق الله الملائكة السبعة وهم أول الخلائق التي خلقها الله وعددها سبعة وهم على التوالي “عزرائيل، جبرائيل، ميكائيل، شمقائيل، دردائيل،عزازيل، عزرافيل” ، حيث جاء في (قەولێ زەبونی مەکسور٨) حول هذا الموضوع ما يلي:
پەدشێ من رب لعەزەتە
ژ ئەول ئافراندبوو ملیاکەتە
دانا دەستێ وان دۆژ وجنەتە
الهي رب العزة
في البدء خلق الملائكة
وضع تحت يدهم جهنم والجنة
المرحلة الثالثة: وبعد أن خلق الله الملائكة أجتمع بهم وشاورهم في انه سيخلق كونا وسيكون لهم دور في ادارة وتنظيم هذا الكون، كما جاء في(قەولێ زەبونی مەکسور٩):
پەدشایە وهەر هەفت سورێت خەولنە
وێ رایەکێ ل ناف خوە دکەنە
ئێقین دێ کنیاتەکێ ئاڤاکەنە
الله والملائكة السبعة
يتشاورون فيما بينهم
يقينا سيخلقون كونا
لمرحلة الرابعة: بعد ذلك وبمشيئة الله انفجرت تلك (الدرة) ونتج عن هذا الانفجار العناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) والتي هي أساس تكوين كل الموجودات، كما يظهر ذلك في هذه النصوص المقدسة10:
کر رکن ورکنی
دور بهیبەتی هنجنی
تاقەت نما هەلگری
تاقەت نەما ب صەبری
دور برنگا خەملی
سپی بوو سۆر بوو سەفری
پەدشێ من یێ جەبارە
ژ دورێ ئافراندبون چارە
بایە وئاخە وئاڤە ونارە
أسكنها فأستقرت
صدُمت الدرة من الهيبة
لم يبقى لها طاقة على التحمل
لم يبقى لها طاقة على الصبر
تلونت الدرة بمختلف الألوان
أبيضت واحمرت وأصفرت
ربى جبار
خلق من الدرة أربعا
الهواء والتراب والماء والنار
المرحلة الخامسة: ومن ثم اكمل الله صنع العالم عن طريق الملائكة، حيث صنع الشموس والنجوم والكواكب وكل ما موجود في الكون، كما جاء في (قەولێ علمێ نادر- دوعایا باوریی١١):
پەدشا باوری وراستی دانیین ل ناف مەلەکا
ب وان ئاڤاکرن جاردە تەبەقە
پەدشا حەقە وناڤێ وی حەقە
مەلەکە فەکرین، ل ئێک ودوو ئێورین
ب وێ باوەریێ ل بەحرا علم سەیریین
عەرد چێکرن، وعەزمان ل سەرا نژرین
بناڤێ خودێ شەکرین
الله وضع الإيمان والصدق بين الملائكة
بهم بنيت أربع عشرة طبقة
الله حق وأسمه الحق
الملائكة فكروا، واستقروا على رأى
بذلك الإيمان تعمقوا في بحر العلم
صنعوا الأرض، ومن فوقه السماء
شكروا باسم الله
المرحلة السادسة: وبعد ان اتم الله خلق الكون، كانت الأرض غير مستقرة ومليئة بالحمم والبراكين وغير صالحة للحياة لفترة طويلة، فأنزل الله لالش(معبد لالش)، فأول يابسة ظهرت على الارض كانت لالش لتبدأ بعدها الاستقرار، حيث تغير وجه الأرض وأصبح جميلا ومليئا بالنباتات وصالحة للحياة كما جاء في(قەلێ زەبونی مەکسور١٢):
عەرد مابوو بوهتی
خدودەکی خودتی
عەزیزێ من عەرد بێی وێ سورێ نەتەبتی
بعدی چل سال ب هەژمارە
عەردی ب خورە نەکرت بوو حەشارە
هەتا موحەبەتا خەرزێ نورانی ب ناڤدا نەدهنارە
کو لالش نزلی
نورا موحبەتێ هات ژ قندلی
عەرد شابوو ب رنگا خەملی
کو لالش دهاتە
ل عەردێ شین دبوو نەباتە
پێ زەینی چقاس کنیات
بقت الأرض مضطربة
لم تكن مستقرة
الأرض من غير ذلك ال(سر) لم تستقر
بعد أربعين سنة بالتمام
لم تستقر الأرض
حتى ظهر فيها لالش
ما أن أنزل لالش
نور المحبة جاء من القنديل
طابت الأرض وتزينت بالألوان
ما أن جاء لالش
تزين بها كل الكون
على الأرض نمت النباتات
المرحلة السابعة: ثم صنع الله قالب او جسد آدم من العناصر الأربعة وهي (الماء والهواء والتراب والنار)، حسب ما جاء في هذه النصوص المقدسة:
خوداڤندێ مە یێ رەحمانی
چار قسمەت ل رووێ دنێ دانی
یەک ئاڤە یەک بایە یەک ئاخە یەک ژی ئاگرە
قالبێ ئادە ژێ نژنی١٣
کو کنیات پێ زەینی
چار قسمت تێ هنجنی
بای وئاڤ وئاخ وئاگری
قالبێ ئادەم پێخەمبەر نژنی١٤
الهي الرحيم
وضع العناصر الاربعة على الارض
الماء والهواء والتراب والنار
صنع منهم قالب آدم
بعد أن تزين الكون بلالش
اختلطت العناصر الأربعة
الهواء والماء والتراب والنار
صنع منهم قالب ادم
المرحلة الثامنة: وبعد سبعمائة سنة من صنع قالب آدم جاءت الملائكة لكي تحييه ( أي لكي تدخل الروح في جسده) لكن الملائكة لم تكن بمقدورها فعل ذلك، ولم تتمكن من إدخال الروح في قالب آدم لأن الخلق من شان الله فقط، لذلك عندما جاء أمر الله، دخلت الروح في قالب آدم ودب فيه الحياة، كما يظهر ذلك في(قەولێ زەبونی مەکسور١٥):
شەمبویێ دانی ئەساسە
ل ئینیێ کر خلاسە
بەعدی هەفت سەد سال
هەفت سور کەهشتنە دوران وکاسە
هەفت سور هاتنە هنداڤە
قالبێ ئادم پێخەمبەر مابو بێ گاڤە
گۆ روحێ بۆَجی ناچیە ناڤە
روحێ گۆ ل باوە عاشقا مەعلومە
هەتا ژ بانا نێن شاز و قدومە
نیڤا روحێ و قالبێ ئادەم زۆر تخومە
شاز و قدوم هاتن وحەدری
نورا موحبەتێ هنگفتە سەری
روح هات وتێ وەتنی
في السبت وضع الأساس
في الجمعة انته منه
بعد سبعة مئة سنة
الملائكة السبعة وصلوا إليه
الملائكة السبعة جاءوا إليه
قالب النبي آدم بقي ساكنا
قالوا للروح لماذا لا تدخلين إليه
قالت الروح معلوم عندكم أيها العشاق
حتى يأتي أمر الله من السماء
ما بين الروح وقالب آدم الكثير من الحدود
جاء أمر الله
وصل نور المحبة إلى رأسه
جاءت الروح واستوطنت في جسد آدم
المرحلة التاسعة: وبعد أن تم خلق آدم، خلقت حواء لتكون زوجة له، وهذا ما يذكره لنا (قەولێ هەزار وئێک ناڤ١٦):
پەدشایێ من هەزار وئێک ناڤە
ل باوی ئەڤ دنیا سەعەتە وگاڤە
سلتان ئێزی دزانە ل بەحرێ چەند کەشکول ئاڤە
ول بەستا چەند کەڤر ل ناڤە
سلتان ئێزی هەوا کرە بوک و ئادم کرا زاڤا
ربي له ألف وواحد من الأسماء
عنده هذه الدنيا صغيرة جدا
الله يعلم كم ماء في البحر
وكم حجرا على اليابسة
الله هو الذي جعل حواء عروسا وآدم عريسا
المرحلة العاشرة: وبعد أن أتم الله مع الملائكة خلق وصنع هذا الكون، وضع الله هذا الكون تحت إدارة الملائكة وجعل طاووس ملك رئيسا عليهم، كما يظهر ذلك في (قەولێ پەدشایی١٧):
پەدشێ من کنیات ئاڤاکر ژ دورا گوهەرە
سپارتبوو هەر هەفت سورێت هەر وهەرە
تاووس مەلەک کرە سەروەرە
إلهي بنى الكون على أحسن ما يكون
وسلمها للملائكة السبعة الخالدين
وجعل طاووس ملك رئيسا عليهم
المصادر:
1- مغامرة العقل الاولى، فراس السواح،دار الكلمة، بيروت، 1988، ص32
2- موجز الحياة في مصر القديمة، د.حسين عبد الناصر،دار نشر دون، مصر،2021، ص18
3- اشهر الاساطيرفي التاريخ، مجدي كامل،دار الكتاب العربي، دمشق، 8/3/2012، ص29
4- الاديان في العالم، سعدون محمد الساموك، هدى على الشمرى، دار المناهج للنشر، الاردن،2010، ص25
5- الكتاب المقدس سفر التكوين
6- القران الكريم
7- د.خلیل جندی، پەرن ژ ئەدەبێ دینێ ئێزدیان، دار سبیریز للطباعة والنشر، کوردستان ،٢٠٠٤،ج١،ص١٩١
8- نفس المصدر السابق، ص166
9- نفس المصدر السابق،ص154
10- نفس المصدر السابق، ص162، 189
11- نفس المصدر السابق، ص241
12- نفس المصدر السابق ص165-166
13- شمو قاسم دنانی، چەند تێکستێن پیرۆز یێن ئۆلا ئێزدیان، چابخانا هەوار ، کوردستان، ٢٠١٢، ج٢،قولی ئافراندنا کنیاتی، ص ٣٨١
14- د.خلیل جندی، پەرن ژ ئەدەبێ دینێ ئێزدیان، دار سبیریز للطباعة والنشر، کوردستان ،٢٠٠٤،،ج1،ص157
15- نفس المصدر السابق، ص166-167
16- نفس المصدر السابق، ص213
17- عزالدين سليم باقسري، مەرگەه، مطبعة خبات، كوردستان، 2003،ص273